الأربعاء، 19 يناير 2011

قضايا عامة : حوار الحضارات ... لماذا ؟ وكيف ؟ ومع من ؟

حوار الحضارات 
لماذا? وكيف? ومع من ?


كيف يمكن للمرء أن يتمسك بمبدأ حوار الحضارات, والدفاع عنه في ظلّ هيمنة ثقافية قطبيّة واضحة المعالم, أصبحت عنصرًا أساسيًا من عناصر التنظير للإمبريالية الجديدة


   هل الحوار ضرورة تقتضيها الأوضاع السياسيّة والاجتماعية والثقافية في هذا البلد أو ذاك? ويمثل بذلك النواة الصلبة في مشروع الإصلاح الديمقراطي الذي تسهم في رسم ملامحه جميع القوى الحية في المجتمع بعد حوار ثري وعميق? أم هو نتيجة رد فعل ضدّ تهمة الآخر بالانغلاق والتطرّف, ومحاولة كسب ودّه بالتظاهر أمامه بأننا ضدّ التطرّف, وضدّ أيديولوجيّة رفض الآخر, كما يلوح ذلك من الخطاب الرسمي في كثير من الأقطار العربية?

    ثم السؤال الآخر: لماذا الحوار؟ وكيف ؟ ومع من ؟

  وأوّد أن أذكر في هذا الصدد بموضة ذاع صيتها في العالم العربي الإسلامي قبل ثلاثة عقود, وأعني بذلك موضة الحوار المسيحي الإسلامي, فقد نظمت حول الموضوع عشرات المؤتمرات والندوات, فماذا كانت النتيجة؟ إنها نتيجة هزيلة في نظري لأسباب متعدّدة لا يسمح المجال بذكرها, وإنّما ألمح إلى سببين:

أ- بدأ الحوار انطلاقا من هواجس سياسيّة ظرفية, وليس من مشروع حضاري معرفي.
ب- وقع تجاهل نقطة البداية في هذا الحوار, وهي مسألة ضرورية, وأعني تصفية إرث الماضي الثقيل بين الكنيسة الغربية والعالم الإسلامي قبل الشروع في حوار حقيقي وجريء.

    وهناك سؤال آخر لا مفر منه اليوم: كيف ندعو للحوار مع الآخر, ونحن معشر العرب لا نستطيع أن نتحاور في عقر بيوتنا?
فاجأني بهذا السؤال أحد المفكرين الألمان قبل أسابيع قليلة في حوار بمدينة فرانكفورت بمناسبة استضافة الثقافة العربية في معرضها الدولي للكتاب, قائلا: كيف تريدون أن تتحاوروا معنا حول المسائل الفكرية, وقضايا السياسة الدوليّة, وأن تتعاونوا معنا ضمن برامج تلفزيونية مشتركة للتعريف بالثقافة العربية, وتفتحها على الثقافات الأخرى بالأمس واليوم, وأنتم في العالم العربي محرومون من الحوار الحرّ, وتحسبون ألف حساب قبل أن تبوحوا بما تفكرون فيه, تضيق صدوركم, ولا تنطق ألسنتكم?


(( الحوار ضد الصدام ))

    لذا أود الوقوف قليلا عند مفهوم (حوار الحضارات), وهو مفهوم جديد استعمل في العالم العربي كثيرا في السنوات الأخيرة, ولم ينتشر ضمن مشروع حضاري عربي جديد يكون حوار الحضارات سمة مميزة فيه, بل انتشر أساسا كردّ فعل ضدّ مقولة (صدام الحضارات) التي روّج لها صامويل هنتنجتون في المقال الذي نشره عام 1993, في مجلة (الشئون الخارجية) (Foreign Affairs) تحت العنوان نفسه (صدام الحضارات) (The Clash of Civilizations), ويمكن تلخيص الفكرة المحوريّة في هذا المقال فيما يلي: إنّ الإستراتيجية العالميّة ستحدد مستقبلا بناء على الحدود الثقافيّة, إذ إن الصراع سوف لا يندلع لأسباب اقتصاديّة, أو سياسيّة, وإنما سينفجر ذودا عن قيم ثقافية مختلفة عن قيم الآخر, وصنف الحضارة العربيّة الإسلاميّة في طليعة الحضارات التي تمثل قيمها قيم الآخر الخطر الذي تجب مواجهته ليس بالحوار, وإنما بالصدام.

    وهكذا برز مفهوم (حوار الحضارات) في وسائل الإعلام العربية ردّا على مقولة (صدام الحضارات), مبرزا بصفة خاصة ما عرفت به الحضارة العربية من تفتح على الحضارات الأخرى, وما يزخر به تراثها من أخذ وعطاء, ولم يتفطن كثير ممن تناولوا هذه المسألة إلى الأهداف الخفيّة لمقولة هنتنجتون, تلك الأهداف التي أماط اللثام عن لبّها الفيلسوف الألماني الشهير يورجن هابرماس (Jurgen Habermas) قائلا: إن مقولة (صدام الحضارات) تخفي بكل جلاء مصالح الغرب الماديّة, وبالخصوص السيطرة على الموارد النفطية, بل أذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إنها تمثل ركنا خطير الشأن من أركان الإمبريالية الجديدة, وقد نظّر لها منذ فترة طويلة المحافظون الجدد, ولهذا التيار, كما هو معروف, استراتيجيون, ومفكرون أيديولوجيون, منهم هنتنجتون.

    ونشير في هذا الصدد إلى أن إدارة مجلة (الشئون الخارجية) قد ذكرت أن مقال هنتنجتون قد أثار ردود فعل وتعليقات تجاوزت ما عرفه أي مقال في تاريخ المجلة, منذ المقال الذي نشره الدبلوماسي الأمريكي المعروف جورج كينان (George Kennen) عام 1946 بتوقيع Mr. X, ودعا فيه إلى ضرورة محاصرة الاتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية العالميّة بعد الحرب العالميّة الثانية, وقد مثل هذا المقال لب الاستراتيجيّة السياسيّة الأمريكية في النصف الثاني من القرن العشرين, أي منذ انتهاء الحرب حتى سقوط جدار برلين.

    ويمكن للمرء أن يتساءل اليوم: هل سيكون لمقال (صدام الحضارات) نفس الدور الذي أداه مقال جورج كينان, لا سيما إذا صنفنا مقال هنتنجتون ضمن تنظير المحافظين الجدد لسياسة الإمبريالية الجديدة?
ولابدّ أن نؤكد في هذا الصدد أن مقولة (صدام الحضارات) تتناقض كليّا مع قيم عصر التنوير, الأس المتين للحداثة الغربيّة, ومن هنا جاء موقف قوى التقدم والحريّة في البلدان الغربية, وفي الولايات المتحدة بصفة خاصة مندّدا بالمقولة, ومناوئا للتيار الذي يمثله صاحبها.


(( قواعد الحداثة ))

    إن العودة إلى قرن التنوير لا تعني العودة إلى الماضي, وإلى التاريخ, وإنما تعني التذكير بالقواعد الصلبة التي شيدت عليها الحداثة والمتمثلة أساسا في المبادئ التالية:

- حريّة الإنسان, فقد حرّرت الحداثة إرادته ليعي أنه صانع تاريخه, وهي التي أزالت طابع القداسة عن الحكم, فالسلطة شأن إنساني دنيوي لا علاقة له بالسماء, وهي تعني أيضا العلاقة الوثيقة التي لا انفصام لها بين مفهومين: العقلانية والتحرر, فالعقلانية لا معنى لها دون أن تكون في خدمة التحرّر, ويضحى التحرّر, وحقوق الإنسان والديمقراطية, دون عقلانيّة مستحيلا.
- الحداثة تعني في نهاية الأمر تحرير التاريخ من مقولة الحتميّة.

- وتعني أيضا فصل الدين عن الدولة, وقد خاض فلاسفة الأنوار معركة ضارية ضدّ سيطرة الحكم المتحالف مع الكهنوت الكنسي, وأذهب إلى القول في هذا الصدد: إنه ليس من الممكن في المرحلة التاريخية التي يمر بها العالم العربي الإسلامي المطالبة بفصل الدين عن الدولة, فدور الدولة القوية لايزال ضروريا, ولابدّ أن يعود إليها الإشراف على المؤسسات الدينية لحمايتها, ورعاية شئونها, وليس لاستغلالها, وإنما ينبغي أن تطالب قوى المجتمع المدني بفصل الدين عن السياسة حتى لا يستغل الدين لمآرب سياسية سواء كان ذلك من التنظيمات السياسية والفكرية, أو من النظم القائمة.

    لابدّ أن نربط اليوم مفهوم (حوار الحضارات) بمفهوم (المواطنة العالميّة), الذي حلم به منظرو الحداثة, ويتفرّع عن هذا المفهوم مفهوم آخر هو حقوق الإنسان المتجاوزة للحدود.

    عبر عن ذلك الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت (Emmanuel Kant) عندما تحدث عن (الجماعة الكونية) فعندما تنشأ هذه الجماعة يصبح الاعتداء على الحقوق في أي مكان من العالم يجد صداه في كل مكان, ومن هنا فإننا نرى أن الحوار بين الحضارات لا يمكن أن يكون ناجعا إلاّ إذا تحوّل إلى حوار بين أفراد أسرة كونيّة واحدة, لا يشعر فيها مواطن هذا البلد أو ذاك بأن الآخر أجنبي, وهنا تؤدي المكاسب الإيجابية للعولمة رسالة خطيرة الشأن, وأعني سقوط الحدود, والحواجز, والمسافات, وبروز معالم ثقافة كونية تنشرها اليوم وسائل الاتصال الحديثة آناء الليل وأطراف النهار.


(( مفاهيم أساسية ))

    إن الحديث عن مفهوم (حوار الحضارات) يجرّنا إلى تناول ثلاثة مفاهيم أخرى:

أولا - المفهوم مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمفهومين آخرين:
- المفهوم الأول هو مفهوم الحرية, فلا يمكن أن نتصوّر حوارا حقيقيا ومجديا دون توافر مناخ الحرية, وبخاصة حرية الرأي والتعبير والنشر, وعندما نعود إلى تراث الفكر الإصلاحي في القرن التاسع عشر نجد المصلح التونسي خير الدين قد تفطن نتيجة الممارسة السياسية من جهة, ودراسة تجربة التقدم الأوربي من جهة أخرى, إلى خطورة عامل العدل السياسي, والحرية فيما عرفته أوربا من تقدم, مؤكدّا في كتابه (أقوم المسالك) (أن الحرية هي منشأ سعة نطاق العرفان والتمدن بالممالك الأوربية. ويقول في فقرة أخرى: (وإنما بلغوا (يعني الممالك الأوربية) تلك الغايات, والتقدم في العلوم والصناعات بالتنظيمات المؤسسة على العدل السياسي).
فأين نحن من ذلك في العالم العربي بعد مرور قرن ونصف القرن على ما صدع به خير الدين في كتابه (أقوم المسالك)?

- أما المفهوم الثاني فهو مفهوم التسامح, وهو بدوره ذو علاقة متينة بمفهومين آخرين: مفهوم التعايش , ومفهوم السلم وطنيا وعالميّا.
إن المجتمع العربي لهو اليوم في حاجة ملحّة إلى نشر مفهوم التسامح, ومن هنا فلا بدّ لجميع قوى المجتمع المدني, وبخاصة فئات النخبة أن تقف سدّا منيعا ضدّ جميع مظاهر عدم التسامح, عدم تسامح الأفراد فيما بينهم, وعدم تسامح الطوائف والمذاهب فيما بينها, وعدم تسامح السلطة مع المدافعين عن حقوق المواطنة.

    إن هذه الجبهة قد أصبحت اليوم ضرورية في الوطن العربي بعد أن ساءت الأوضاع وتدهورت, فأصبح الصمت يعني القفز في المجهول, والمزيد من التردي.

    قد يقول قائل: إنك تدعو إلى تسامح مطلق, وهذا موقف مثالي لا وجود له في عالم الممارسة اليوميّة, وبخاصة في البلدان غير الديمقراطية, وحتى في البلدان الديمقراطية, كما تبرهن على ذلك قيود الهجرة إلى بلدان الاتحاد الأوربي, أو السفر إلى الولايات المتحدة.
نعم أقبل هذا الاعتراض, وأقول: إن تسامحا مقيّدا أفضل بكثير من انعدام التسامح البتة.

- أما المفهوم الثالث فهو مفهوم العنف السياسي وعلاقته بالحوار, فالقطبيّة السياسية والثقافية تريد اليوم فرض نموذجها السياسي والحضاري بالقوة, فأصبحت متهمة بأنها تريد القضاء بالعنف على أنماط الحياة التقليدية للشعوب, وبخاصة شعوب الجنوب, ومن هنا جاءت ردود الفعل.


(( العنف والصمم السياسي ))

   عندما يعجز المجتمع الدولي, أو الدول عن حل المشاكل بالحوار السلمي, فإن ذلك يؤدي حتما إلى الرفض, ثم العنف. إن أمثلة كثيرة من التاريخ الحديث تؤكدّ أن العنف يصبح رد الفعل الوحيد الممكن ضد الطرش السياسي, وتجاهل صيحات الإنذار, فقد كشف مانديلا كيف أن حزبه ناضل سلميا من أجل الحوار مع البيض, ولكنه اضطّر أمام رفض الآخر إلى حمل السلاح, وهو ما عاشته الحركة الوطنية التونسية بعد أن رفضت الحكومة الفرنسية الحوار, وأعلنت القطيعة في رسالتها الشهيرة إلى حكومة التفاوض يوم الخامس عشر من ديسمبر 1951, فاندلعت عندئذ الانتفاضة المسلحة, وهو ما تعبر عنه اليوم انتفاضة الشعب الفلسطيني الصامد بعد أن أوصد الصلف الصهيوني جميع أبواب الحوار, وفقد الناس الأمل في حلّ سياسي سلمي.

    الشق الثاني من الإشكاليّة المطروحة في بداية هذا النص يتصل بالتساؤل التالي: كيف يمكن الدفاع عن مبادئ (حوار الحضارات) في ظلّ هيمنة ثقافية?

وقبل الإجابة عن هذا التساؤل لابدّ من الإلماع بإيجاز إلى الاستراتيجيات التي وضعت في العصر الحديث لفرض النموذج الثقافي الغربي على الشعوب الأخرى:

- مثلت الاستراتيجية الأولى ركنا أساسيا من أركان المشروع الاستعماري الامبريالي في القرن التاسع عشر, ونشر منظرو السياسة الاستعمارية مقولة (رسالة التمدين), ولا ننسى التذكير في هذا الصدد بأن التبشير الكنسي كان عنصرا بارزا من عناصر (رسالة التمدين).

- وجاءت الاستراتيجية الثانية دعامة متينة من دعائم الحرب الباردة غداة الحرب العالمية الثانية, فقد تفطنت الرأسمالية ذات البعد الإمبريالي التوسعي أن المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي يمثل عائقا خطير الشأن أمام نشر النموذج الغربي الرأسمالي في العالم, بل يمثل خطرا على النموذج نفسه, ذلك أن النموذج الشيوعي طرح نفسه بديلا عن النموذج الرأسمالي عامة, والنموذج الأمريكي بصفة أخص.
   مثلت الثقافة سلاحا ناجعا من أسلحة الحرب الباردة, ولقد كشفت عن هذا الدور الباحثة البريطانية ف. س. سوندرز (F.S.Saunders) في كتابها الرائع بعنوان: (الحرب الباردة الثقافية) (المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب), والصادر بالإنجليزية بمدينة نيويورك عام 2000 (صدر بالعربية عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة سنة 2002), فمن المعروف أن (منظمة الحرية الثقافية) التي أسستها عام 1950 المخابرات المركزية (CIA) مثلت ذراع التجسس السري في المجال الأكاديمي والثقافي داخل الولايات المتحدة وخارجها, وأسست مكاتب في 35 دولة يعمل بها مئات الموظفين, وبينهم مثقفون كبار, وأصدرت أكثر من 20 مجلة ذات نفوذ وانتشار واسع, وأقامت المعارض الفنية, وعقدت مؤتمرات دولية, كما امتلكت مؤسسات إعلامية كبرى.

    وقد بلغت سيطرة المخابرات الأمريكية على الحياة الأكاديمية والثقافية درجة مأساوية لما نجح السيناتور مكارثي في بعث لجنة داخل الكونغرس خاصة بالنشاط المعادي لأمريكا تمكّنت عام 1953 من إصدار مشروع قانون خاص بالرقابة على الثقافة.


(( عصر تنوير جديد ))

    ركّزت هذه الاستراتيجية على مقولة أن العالم في حاجة إلى سلام أمريكي, وإلى عصر تنوير جديد يؤسس للقرن الأمريكي, وإلى رسالة تمدينية جديدة تبشر هذه المرة, ليس بالنموذج الغربي بصفة عامة, كما كان الشأن في الاستراتيجية الأولى, بل تبشّر بالنموذج الأمريكي تحديدا, ووظّف الدين ليتحمّس المواطن الأمريكي العادي لسياسة نشر النموذج الأمريكي, فقد نجحت لجنة النشاط المعادي لأمريكا بالكونجرس في أن تضيف عام 1954 لقسم الولاء لأمريكا عبارة (أمة واحدة تحت راية الرب), وهل نستغرب بعد ذلك من دور الكنيسة المحافظة في التأثير على نتائج الانتخابات الأمريكية?!

    أما الاستراتيجية الثالثة, ودور الهيمنة الثقافية فيها فقد وضعت أسسها غداة انهيار كتلة أوربا الشرقية, وبداية التنظير للإمبريالية الجديدة, ومثل مقال (صدام الحضارات) المبادرة الأكاديمية في هذا المجال لإضفاء الجدية والصدق عليها.

    قد اتضح من جديد أن الرأسمالية الاحتكارية تحتاج إلى خلق عدو, ولو كان وهميا, فقد بشر دعاتها أيام الحرب الباردة بأن سقوط ديكتاتوريات بلدان المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي سيكون انتصارًا لمباديء الحرية, وحقوق الإنسان, وسيؤدي سقوط الأصنام الكبيرة في هذا المعسكر إلى سقوط الأصنام الصغيرة في بلدان العالم الثالث, وزعموا أن ميزانيات المعسكر الغربي الضخمة المخصصة للحرب الباردة, وإنهاك الاتحاد السوفييتي في مجالي المعركة الاقتصادية, وسباق التسلّح ستصرف بعد سقوط المعسكر على مخططات التنمية الاقتصادية في المجتمعات السائرة في طريق النمو.

    ولم تمر إلا سنوات معدودات على سقوط جدار برلين 1989 حتى عادت حليمة إلى عادتها القديمة, فبدأت الرأسمالية الاحتكارية تسعى إلى خلق عدو جديد تنظّر له فكريا وإعلاميا, وتعد له في الوقت ذاته الخطط الاستراتيجية والعسكرية, فطلعت علينا بنظرية (نهاية التاريخ), وانتصار الليبرالية نهائيا, ثم انتشرت مقولة (صدام الحضارات) لتحذر الرأي العام الغربي قائلة: إن العدو قادم من الجنوب هذه المرّة, ومن بلاد الإسلام بصفة أخص, وهكذا تحوّل الصراع أيام الحرب الباردة من صراع أيديولوجي سياسي إلى صراع حضاري ديني, ولم يبق الأمر مقتصرا على كتابات ممثلي اليمين الأمريكي المتطرّف, بل سقط القناع, وانكشف اللب لما طفت مفاهيم ذات محتوى كهنوتي يذكرنا بالمفاهيم المتداولة في أروقة محاكم التفتيش في العصور الوسطي مثل مفهوم (الحروب الصليبيّة), ومفهوم (محور الشر). إن هذا المناخ الفكري (القروسطي) هو الذي يكمن وراء التنظير للحروب الوقائيّة قصد السيطرة على ثروات شعوب الجنوب, وفي مقدمتها الشعوب العربيّة والإسلاميّة.

    وحسب كثير من أهل الاختصاص في الشئون السياسية والاستراتيجية أن الحلف الأطلسي سيحمل بعد سقوط جدار برلين إلى مثواه الأخير في مقبرة الحرب الباردة, ولكنهم فوجئوا بتلويحه بالجزرة في اتجاه شرق أوربا, وبالعصا الغليظة في اتجاه بلدان الجنوب, فأصبحت له مشروعاته في أفغانستان والعراق, كما بات باحثًا عن تعاون وثيق في منطقة المغرب العربي, ويندرج كل ذلك ضمن البحث عن هذا العدو الجديد الذي أطلّ برأسه من الجنوب, وأطلقوا عليه اسم (الإرهاب), وضرورة شن حروب ضدّه بأشد الأسلحة فتكا وتدميرا.

    نهدف من وراء هذه الإشارة السريعة إلى البرهنة على أن التنظير لمرحلة الإمبريالية الجديدة قد بلغ مرحلة التنفيذ مع وصول المحافظين الجدد إلى مركز صنع القرار, وليس من الصدفة أن نجد ضمن زمرة المحافظين الجدد المنظرين للحروب الوقائية, أو الاستباقية غلاة الأيديولوجية الصهيونية.


(( الحوار المجدي ))

    وأعود في نهاية هذا النص إلى إشكالية (حوار الثقافات) لأتساءل: ما هو الموقف الذي ينبغي أن تدافع عنه قوى الحرية والتقدم في العالم العربي ? يمكن تلخيص هذا الموقف في مقولة (لا بديل عن الحوار), ولكن الحوار المجدي الذي ينبغي أن تبادر إليه النخب في البلدان العربية يجب أن يتم مع قوى المجتمع المدني في البلدان الغربية, فالحوار ضروري, ولا بديل عنه لأن البديل الذي يطرحه الغلاة من الجانبين يعني الدخول في صراع حضاري وديني وعرقي يؤدي في نهاية المطاف إلى الفوضى, وإلى مزيد من البلقنة والضعف والتخلف في المنطقة العربية والإسلامية, وقد بدأت تلوح البوادر, وأخذ الاستراتيجيون العسكريون يتحدثون عن الأهداف الجديدة, وليس بعد العيان من بيان.
  إن مقولة (صراع الحضارات) مقولة أمريكية مؤدلجة وبدعة من بدع الفكر الصهيوني الشوفيني, ذلك أن دخول الغرب في صراع مع الإسلام والحضارة العربية الإسلامية, إنما يقدم خدمة كبرى لسياسة إسرائيل ولأطماعها التوسّعية في المنطقة, أما المقولة السليمة التي يجب أن تطرحها وتدافع عنها كل قوى السلام والتقدم في جميع بلدان العالم, فهي مقولة (حوار الحضارات), ذلك أن الحضارات بطبيعتها متفتحة ومتأثرة ومؤثرة, ولم يعرف التاريخ حضارة منغلقة, فالانغلاق معاد لطبيعة الحضارة.

    إنني أتفق مع المفكر الفلسطيني اللامع الراحل إدوارد سعيد عندما يقول في مقدمة الترجمة العربية لكتابه الشهير (الثقافة والإمبريالية): إن فكرة التعددية الثقافية لا تؤدي بالضرورة إلى الهيمنة والعداوة, بل تؤدي إلى المشاركة, وتجاوز الحدود, وإلى التواريخ المشتركة والمتقاطعة, وأضيف: بل تؤدي إلى أن يكون هنالك إرث ثقافي مشترك بين الشعوب.

    إن فكر ابن سينا, وابن رشد, وابن خلدون هو تراث فكري إنساني تشترك فيه جميع الحضارات, وليس خاصّا بتراث الثقافة العربية, وإنّ تراث فكر أفلاطون وأرسطو, وفكر فلاسفة عصر التنوير مثل فولتير, وروسو وكانط وغيرهم ليس تراثا فكريا خاصّا بالحضارة الغربية, بل هو تراث إنساني مشترك, إننا اليوم لفي حاجة ملحة إلى دعم هذا التوجّه, وإبراز الإرث الإنساني العام في ثقافات الشعوب, والوقوف أمام ذلك التيار المتطرّف الذي يحاول أن يثبت أن (صدام الحضارات) قدر محتوم لا مفرّ منه.


(( الهوية والخصوصية ))

    وأودّ التلميح في هذا الصدد إلى وجود أصوات في العالم العربي تثير قضية الهوية والخصوصية عندما يدافع أنصار الحداثة, وأنصار العولمة في جوهرها الإيجابي عن الثقافة الكونية, وكأن هنالك تناقضا بين الكونية والخصوصية, إن روافد الخصوصية تغذو الكونية, وتثري تنوّعها, فلا تعارض في نظري بين الخصوصية والكونية, بشرط ألا تتحوّل الخصوصية إلى شوفينية ترفض الإيجابي والحداثي لدى الآخر, فهنالك من يرفض اليوم الديمقراطية بحجة أن خصوصيتنا الثقافية لا تعرف هذا المفهوم, وإنما تعرف مفهوم الشورى, إن مفهوم (الشورى) مفهوم إيجابي ورائد في زمانه, وبخاصة الشورى الملزمة, ولكنه مفهوم تاريخي تراثي أفرغ من محتواه الأصلي منذ القرن الأول للهجرة لمّا نظّر فقهاء السلطة للشورى غير الملزمة.

    لا بدّ من الاستماتة اليوم في الدفاع عن مفاهيم أصبحت كونية, مثل الحريات العامة والديمقراطية, والمجتمع المدني, وحقوق الإنسان وغيرها, فالمعركة الحقيقية الملحّة اليوم في العالم العربي ليست معركة الخصوصية والهوية, بل هي معركة الحريات العامة والديمقراطية, إذ إن من لا حقّ له لا هوية له.

    وأستنجد في هذا المجال بتراث الفكر الإصلاحي في القرن التاسع عشر, فمفهوم الهوية لم يعرفه هذا التراث, وإنما عرف مفهوم الحرية, ومفهوم حب الوطن, وهو قريب من مفهوم الهوية. وعندما وضع مفهوم حب الوطن مقابلا للحرية اختار بعض المصلحين الحرية, واعتبروها هي الوطن الحقيقي, فالوطن ليس مجرد فضاء جغرافي, بل هو بالأساس حرية وحقوق, ومن الغريب أن يقف هذا الموقف الطليعي الرائد شيخ من شيوخ الزيتونة كان يتجول بعمامته ذات يوم من أيام شهر نوفمبر عام 1846 بشارع الشانزيليزيه في باريس رفقة أحمد باي في نزهة خاصة خارج البرنامج الرسمي لزيارة باي تونس, فجرى الحوار التالي بينهما, ولم يكن الشيخ أحمد بن أبي الضياف مجرّد موظف عند الباي, بل كان صديقه الشخصي, قال أحمد متشوقا إلى تونس: ما أشوقني للدخول من باب عليوة, (أحد أبواب مدينة تونس), وأشتم رائحة الزيت من حانوت الفطايري داخله, فقلت له مداعبا وأنا أتنفس في هواء الحرية, وأرد من مائها, وقدماي بأرضها: يحق لك ذلك لأنك إن دخلت من هذا الباب تفعل ما تشاء, أما الآن فأنت رجل من الناس, فقال لي: لا سامحك الله, لم لا تحملني على حب الوطن لذاته, وعلى أي حالاته ? فقلت له إن هذا الوطن ينسي الوطن والأهل, كما قال الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم
يعاب بنسيان الأحبّة والأهل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق