الأربعاء، 19 يناير 2011

قضايا عامة : حوار الحضارات ... لماذا ؟ وكيف ؟ ومع من ؟

حوار الحضارات 
لماذا? وكيف? ومع من ?


كيف يمكن للمرء أن يتمسك بمبدأ حوار الحضارات, والدفاع عنه في ظلّ هيمنة ثقافية قطبيّة واضحة المعالم, أصبحت عنصرًا أساسيًا من عناصر التنظير للإمبريالية الجديدة


   هل الحوار ضرورة تقتضيها الأوضاع السياسيّة والاجتماعية والثقافية في هذا البلد أو ذاك? ويمثل بذلك النواة الصلبة في مشروع الإصلاح الديمقراطي الذي تسهم في رسم ملامحه جميع القوى الحية في المجتمع بعد حوار ثري وعميق? أم هو نتيجة رد فعل ضدّ تهمة الآخر بالانغلاق والتطرّف, ومحاولة كسب ودّه بالتظاهر أمامه بأننا ضدّ التطرّف, وضدّ أيديولوجيّة رفض الآخر, كما يلوح ذلك من الخطاب الرسمي في كثير من الأقطار العربية?

    ثم السؤال الآخر: لماذا الحوار؟ وكيف ؟ ومع من ؟

  وأوّد أن أذكر في هذا الصدد بموضة ذاع صيتها في العالم العربي الإسلامي قبل ثلاثة عقود, وأعني بذلك موضة الحوار المسيحي الإسلامي, فقد نظمت حول الموضوع عشرات المؤتمرات والندوات, فماذا كانت النتيجة؟ إنها نتيجة هزيلة في نظري لأسباب متعدّدة لا يسمح المجال بذكرها, وإنّما ألمح إلى سببين:

أ- بدأ الحوار انطلاقا من هواجس سياسيّة ظرفية, وليس من مشروع حضاري معرفي.
ب- وقع تجاهل نقطة البداية في هذا الحوار, وهي مسألة ضرورية, وأعني تصفية إرث الماضي الثقيل بين الكنيسة الغربية والعالم الإسلامي قبل الشروع في حوار حقيقي وجريء.

    وهناك سؤال آخر لا مفر منه اليوم: كيف ندعو للحوار مع الآخر, ونحن معشر العرب لا نستطيع أن نتحاور في عقر بيوتنا?
فاجأني بهذا السؤال أحد المفكرين الألمان قبل أسابيع قليلة في حوار بمدينة فرانكفورت بمناسبة استضافة الثقافة العربية في معرضها الدولي للكتاب, قائلا: كيف تريدون أن تتحاوروا معنا حول المسائل الفكرية, وقضايا السياسة الدوليّة, وأن تتعاونوا معنا ضمن برامج تلفزيونية مشتركة للتعريف بالثقافة العربية, وتفتحها على الثقافات الأخرى بالأمس واليوم, وأنتم في العالم العربي محرومون من الحوار الحرّ, وتحسبون ألف حساب قبل أن تبوحوا بما تفكرون فيه, تضيق صدوركم, ولا تنطق ألسنتكم?


(( الحوار ضد الصدام ))

    لذا أود الوقوف قليلا عند مفهوم (حوار الحضارات), وهو مفهوم جديد استعمل في العالم العربي كثيرا في السنوات الأخيرة, ولم ينتشر ضمن مشروع حضاري عربي جديد يكون حوار الحضارات سمة مميزة فيه, بل انتشر أساسا كردّ فعل ضدّ مقولة (صدام الحضارات) التي روّج لها صامويل هنتنجتون في المقال الذي نشره عام 1993, في مجلة (الشئون الخارجية) (Foreign Affairs) تحت العنوان نفسه (صدام الحضارات) (The Clash of Civilizations), ويمكن تلخيص الفكرة المحوريّة في هذا المقال فيما يلي: إنّ الإستراتيجية العالميّة ستحدد مستقبلا بناء على الحدود الثقافيّة, إذ إن الصراع سوف لا يندلع لأسباب اقتصاديّة, أو سياسيّة, وإنما سينفجر ذودا عن قيم ثقافية مختلفة عن قيم الآخر, وصنف الحضارة العربيّة الإسلاميّة في طليعة الحضارات التي تمثل قيمها قيم الآخر الخطر الذي تجب مواجهته ليس بالحوار, وإنما بالصدام.

    وهكذا برز مفهوم (حوار الحضارات) في وسائل الإعلام العربية ردّا على مقولة (صدام الحضارات), مبرزا بصفة خاصة ما عرفت به الحضارة العربية من تفتح على الحضارات الأخرى, وما يزخر به تراثها من أخذ وعطاء, ولم يتفطن كثير ممن تناولوا هذه المسألة إلى الأهداف الخفيّة لمقولة هنتنجتون, تلك الأهداف التي أماط اللثام عن لبّها الفيلسوف الألماني الشهير يورجن هابرماس (Jurgen Habermas) قائلا: إن مقولة (صدام الحضارات) تخفي بكل جلاء مصالح الغرب الماديّة, وبالخصوص السيطرة على الموارد النفطية, بل أذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إنها تمثل ركنا خطير الشأن من أركان الإمبريالية الجديدة, وقد نظّر لها منذ فترة طويلة المحافظون الجدد, ولهذا التيار, كما هو معروف, استراتيجيون, ومفكرون أيديولوجيون, منهم هنتنجتون.

    ونشير في هذا الصدد إلى أن إدارة مجلة (الشئون الخارجية) قد ذكرت أن مقال هنتنجتون قد أثار ردود فعل وتعليقات تجاوزت ما عرفه أي مقال في تاريخ المجلة, منذ المقال الذي نشره الدبلوماسي الأمريكي المعروف جورج كينان (George Kennen) عام 1946 بتوقيع Mr. X, ودعا فيه إلى ضرورة محاصرة الاتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية العالميّة بعد الحرب العالميّة الثانية, وقد مثل هذا المقال لب الاستراتيجيّة السياسيّة الأمريكية في النصف الثاني من القرن العشرين, أي منذ انتهاء الحرب حتى سقوط جدار برلين.

    ويمكن للمرء أن يتساءل اليوم: هل سيكون لمقال (صدام الحضارات) نفس الدور الذي أداه مقال جورج كينان, لا سيما إذا صنفنا مقال هنتنجتون ضمن تنظير المحافظين الجدد لسياسة الإمبريالية الجديدة?
ولابدّ أن نؤكد في هذا الصدد أن مقولة (صدام الحضارات) تتناقض كليّا مع قيم عصر التنوير, الأس المتين للحداثة الغربيّة, ومن هنا جاء موقف قوى التقدم والحريّة في البلدان الغربية, وفي الولايات المتحدة بصفة خاصة مندّدا بالمقولة, ومناوئا للتيار الذي يمثله صاحبها.


(( قواعد الحداثة ))

    إن العودة إلى قرن التنوير لا تعني العودة إلى الماضي, وإلى التاريخ, وإنما تعني التذكير بالقواعد الصلبة التي شيدت عليها الحداثة والمتمثلة أساسا في المبادئ التالية:

- حريّة الإنسان, فقد حرّرت الحداثة إرادته ليعي أنه صانع تاريخه, وهي التي أزالت طابع القداسة عن الحكم, فالسلطة شأن إنساني دنيوي لا علاقة له بالسماء, وهي تعني أيضا العلاقة الوثيقة التي لا انفصام لها بين مفهومين: العقلانية والتحرر, فالعقلانية لا معنى لها دون أن تكون في خدمة التحرّر, ويضحى التحرّر, وحقوق الإنسان والديمقراطية, دون عقلانيّة مستحيلا.
- الحداثة تعني في نهاية الأمر تحرير التاريخ من مقولة الحتميّة.

- وتعني أيضا فصل الدين عن الدولة, وقد خاض فلاسفة الأنوار معركة ضارية ضدّ سيطرة الحكم المتحالف مع الكهنوت الكنسي, وأذهب إلى القول في هذا الصدد: إنه ليس من الممكن في المرحلة التاريخية التي يمر بها العالم العربي الإسلامي المطالبة بفصل الدين عن الدولة, فدور الدولة القوية لايزال ضروريا, ولابدّ أن يعود إليها الإشراف على المؤسسات الدينية لحمايتها, ورعاية شئونها, وليس لاستغلالها, وإنما ينبغي أن تطالب قوى المجتمع المدني بفصل الدين عن السياسة حتى لا يستغل الدين لمآرب سياسية سواء كان ذلك من التنظيمات السياسية والفكرية, أو من النظم القائمة.

    لابدّ أن نربط اليوم مفهوم (حوار الحضارات) بمفهوم (المواطنة العالميّة), الذي حلم به منظرو الحداثة, ويتفرّع عن هذا المفهوم مفهوم آخر هو حقوق الإنسان المتجاوزة للحدود.

    عبر عن ذلك الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت (Emmanuel Kant) عندما تحدث عن (الجماعة الكونية) فعندما تنشأ هذه الجماعة يصبح الاعتداء على الحقوق في أي مكان من العالم يجد صداه في كل مكان, ومن هنا فإننا نرى أن الحوار بين الحضارات لا يمكن أن يكون ناجعا إلاّ إذا تحوّل إلى حوار بين أفراد أسرة كونيّة واحدة, لا يشعر فيها مواطن هذا البلد أو ذاك بأن الآخر أجنبي, وهنا تؤدي المكاسب الإيجابية للعولمة رسالة خطيرة الشأن, وأعني سقوط الحدود, والحواجز, والمسافات, وبروز معالم ثقافة كونية تنشرها اليوم وسائل الاتصال الحديثة آناء الليل وأطراف النهار.


(( مفاهيم أساسية ))

    إن الحديث عن مفهوم (حوار الحضارات) يجرّنا إلى تناول ثلاثة مفاهيم أخرى:

أولا - المفهوم مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمفهومين آخرين:
- المفهوم الأول هو مفهوم الحرية, فلا يمكن أن نتصوّر حوارا حقيقيا ومجديا دون توافر مناخ الحرية, وبخاصة حرية الرأي والتعبير والنشر, وعندما نعود إلى تراث الفكر الإصلاحي في القرن التاسع عشر نجد المصلح التونسي خير الدين قد تفطن نتيجة الممارسة السياسية من جهة, ودراسة تجربة التقدم الأوربي من جهة أخرى, إلى خطورة عامل العدل السياسي, والحرية فيما عرفته أوربا من تقدم, مؤكدّا في كتابه (أقوم المسالك) (أن الحرية هي منشأ سعة نطاق العرفان والتمدن بالممالك الأوربية. ويقول في فقرة أخرى: (وإنما بلغوا (يعني الممالك الأوربية) تلك الغايات, والتقدم في العلوم والصناعات بالتنظيمات المؤسسة على العدل السياسي).
فأين نحن من ذلك في العالم العربي بعد مرور قرن ونصف القرن على ما صدع به خير الدين في كتابه (أقوم المسالك)?

- أما المفهوم الثاني فهو مفهوم التسامح, وهو بدوره ذو علاقة متينة بمفهومين آخرين: مفهوم التعايش , ومفهوم السلم وطنيا وعالميّا.
إن المجتمع العربي لهو اليوم في حاجة ملحّة إلى نشر مفهوم التسامح, ومن هنا فلا بدّ لجميع قوى المجتمع المدني, وبخاصة فئات النخبة أن تقف سدّا منيعا ضدّ جميع مظاهر عدم التسامح, عدم تسامح الأفراد فيما بينهم, وعدم تسامح الطوائف والمذاهب فيما بينها, وعدم تسامح السلطة مع المدافعين عن حقوق المواطنة.

    إن هذه الجبهة قد أصبحت اليوم ضرورية في الوطن العربي بعد أن ساءت الأوضاع وتدهورت, فأصبح الصمت يعني القفز في المجهول, والمزيد من التردي.

    قد يقول قائل: إنك تدعو إلى تسامح مطلق, وهذا موقف مثالي لا وجود له في عالم الممارسة اليوميّة, وبخاصة في البلدان غير الديمقراطية, وحتى في البلدان الديمقراطية, كما تبرهن على ذلك قيود الهجرة إلى بلدان الاتحاد الأوربي, أو السفر إلى الولايات المتحدة.
نعم أقبل هذا الاعتراض, وأقول: إن تسامحا مقيّدا أفضل بكثير من انعدام التسامح البتة.

- أما المفهوم الثالث فهو مفهوم العنف السياسي وعلاقته بالحوار, فالقطبيّة السياسية والثقافية تريد اليوم فرض نموذجها السياسي والحضاري بالقوة, فأصبحت متهمة بأنها تريد القضاء بالعنف على أنماط الحياة التقليدية للشعوب, وبخاصة شعوب الجنوب, ومن هنا جاءت ردود الفعل.


(( العنف والصمم السياسي ))

   عندما يعجز المجتمع الدولي, أو الدول عن حل المشاكل بالحوار السلمي, فإن ذلك يؤدي حتما إلى الرفض, ثم العنف. إن أمثلة كثيرة من التاريخ الحديث تؤكدّ أن العنف يصبح رد الفعل الوحيد الممكن ضد الطرش السياسي, وتجاهل صيحات الإنذار, فقد كشف مانديلا كيف أن حزبه ناضل سلميا من أجل الحوار مع البيض, ولكنه اضطّر أمام رفض الآخر إلى حمل السلاح, وهو ما عاشته الحركة الوطنية التونسية بعد أن رفضت الحكومة الفرنسية الحوار, وأعلنت القطيعة في رسالتها الشهيرة إلى حكومة التفاوض يوم الخامس عشر من ديسمبر 1951, فاندلعت عندئذ الانتفاضة المسلحة, وهو ما تعبر عنه اليوم انتفاضة الشعب الفلسطيني الصامد بعد أن أوصد الصلف الصهيوني جميع أبواب الحوار, وفقد الناس الأمل في حلّ سياسي سلمي.

    الشق الثاني من الإشكاليّة المطروحة في بداية هذا النص يتصل بالتساؤل التالي: كيف يمكن الدفاع عن مبادئ (حوار الحضارات) في ظلّ هيمنة ثقافية?

وقبل الإجابة عن هذا التساؤل لابدّ من الإلماع بإيجاز إلى الاستراتيجيات التي وضعت في العصر الحديث لفرض النموذج الثقافي الغربي على الشعوب الأخرى:

- مثلت الاستراتيجية الأولى ركنا أساسيا من أركان المشروع الاستعماري الامبريالي في القرن التاسع عشر, ونشر منظرو السياسة الاستعمارية مقولة (رسالة التمدين), ولا ننسى التذكير في هذا الصدد بأن التبشير الكنسي كان عنصرا بارزا من عناصر (رسالة التمدين).

- وجاءت الاستراتيجية الثانية دعامة متينة من دعائم الحرب الباردة غداة الحرب العالمية الثانية, فقد تفطنت الرأسمالية ذات البعد الإمبريالي التوسعي أن المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي يمثل عائقا خطير الشأن أمام نشر النموذج الغربي الرأسمالي في العالم, بل يمثل خطرا على النموذج نفسه, ذلك أن النموذج الشيوعي طرح نفسه بديلا عن النموذج الرأسمالي عامة, والنموذج الأمريكي بصفة أخص.
   مثلت الثقافة سلاحا ناجعا من أسلحة الحرب الباردة, ولقد كشفت عن هذا الدور الباحثة البريطانية ف. س. سوندرز (F.S.Saunders) في كتابها الرائع بعنوان: (الحرب الباردة الثقافية) (المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب), والصادر بالإنجليزية بمدينة نيويورك عام 2000 (صدر بالعربية عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة سنة 2002), فمن المعروف أن (منظمة الحرية الثقافية) التي أسستها عام 1950 المخابرات المركزية (CIA) مثلت ذراع التجسس السري في المجال الأكاديمي والثقافي داخل الولايات المتحدة وخارجها, وأسست مكاتب في 35 دولة يعمل بها مئات الموظفين, وبينهم مثقفون كبار, وأصدرت أكثر من 20 مجلة ذات نفوذ وانتشار واسع, وأقامت المعارض الفنية, وعقدت مؤتمرات دولية, كما امتلكت مؤسسات إعلامية كبرى.

    وقد بلغت سيطرة المخابرات الأمريكية على الحياة الأكاديمية والثقافية درجة مأساوية لما نجح السيناتور مكارثي في بعث لجنة داخل الكونغرس خاصة بالنشاط المعادي لأمريكا تمكّنت عام 1953 من إصدار مشروع قانون خاص بالرقابة على الثقافة.


(( عصر تنوير جديد ))

    ركّزت هذه الاستراتيجية على مقولة أن العالم في حاجة إلى سلام أمريكي, وإلى عصر تنوير جديد يؤسس للقرن الأمريكي, وإلى رسالة تمدينية جديدة تبشر هذه المرة, ليس بالنموذج الغربي بصفة عامة, كما كان الشأن في الاستراتيجية الأولى, بل تبشّر بالنموذج الأمريكي تحديدا, ووظّف الدين ليتحمّس المواطن الأمريكي العادي لسياسة نشر النموذج الأمريكي, فقد نجحت لجنة النشاط المعادي لأمريكا بالكونجرس في أن تضيف عام 1954 لقسم الولاء لأمريكا عبارة (أمة واحدة تحت راية الرب), وهل نستغرب بعد ذلك من دور الكنيسة المحافظة في التأثير على نتائج الانتخابات الأمريكية?!

    أما الاستراتيجية الثالثة, ودور الهيمنة الثقافية فيها فقد وضعت أسسها غداة انهيار كتلة أوربا الشرقية, وبداية التنظير للإمبريالية الجديدة, ومثل مقال (صدام الحضارات) المبادرة الأكاديمية في هذا المجال لإضفاء الجدية والصدق عليها.

    قد اتضح من جديد أن الرأسمالية الاحتكارية تحتاج إلى خلق عدو, ولو كان وهميا, فقد بشر دعاتها أيام الحرب الباردة بأن سقوط ديكتاتوريات بلدان المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي سيكون انتصارًا لمباديء الحرية, وحقوق الإنسان, وسيؤدي سقوط الأصنام الكبيرة في هذا المعسكر إلى سقوط الأصنام الصغيرة في بلدان العالم الثالث, وزعموا أن ميزانيات المعسكر الغربي الضخمة المخصصة للحرب الباردة, وإنهاك الاتحاد السوفييتي في مجالي المعركة الاقتصادية, وسباق التسلّح ستصرف بعد سقوط المعسكر على مخططات التنمية الاقتصادية في المجتمعات السائرة في طريق النمو.

    ولم تمر إلا سنوات معدودات على سقوط جدار برلين 1989 حتى عادت حليمة إلى عادتها القديمة, فبدأت الرأسمالية الاحتكارية تسعى إلى خلق عدو جديد تنظّر له فكريا وإعلاميا, وتعد له في الوقت ذاته الخطط الاستراتيجية والعسكرية, فطلعت علينا بنظرية (نهاية التاريخ), وانتصار الليبرالية نهائيا, ثم انتشرت مقولة (صدام الحضارات) لتحذر الرأي العام الغربي قائلة: إن العدو قادم من الجنوب هذه المرّة, ومن بلاد الإسلام بصفة أخص, وهكذا تحوّل الصراع أيام الحرب الباردة من صراع أيديولوجي سياسي إلى صراع حضاري ديني, ولم يبق الأمر مقتصرا على كتابات ممثلي اليمين الأمريكي المتطرّف, بل سقط القناع, وانكشف اللب لما طفت مفاهيم ذات محتوى كهنوتي يذكرنا بالمفاهيم المتداولة في أروقة محاكم التفتيش في العصور الوسطي مثل مفهوم (الحروب الصليبيّة), ومفهوم (محور الشر). إن هذا المناخ الفكري (القروسطي) هو الذي يكمن وراء التنظير للحروب الوقائيّة قصد السيطرة على ثروات شعوب الجنوب, وفي مقدمتها الشعوب العربيّة والإسلاميّة.

    وحسب كثير من أهل الاختصاص في الشئون السياسية والاستراتيجية أن الحلف الأطلسي سيحمل بعد سقوط جدار برلين إلى مثواه الأخير في مقبرة الحرب الباردة, ولكنهم فوجئوا بتلويحه بالجزرة في اتجاه شرق أوربا, وبالعصا الغليظة في اتجاه بلدان الجنوب, فأصبحت له مشروعاته في أفغانستان والعراق, كما بات باحثًا عن تعاون وثيق في منطقة المغرب العربي, ويندرج كل ذلك ضمن البحث عن هذا العدو الجديد الذي أطلّ برأسه من الجنوب, وأطلقوا عليه اسم (الإرهاب), وضرورة شن حروب ضدّه بأشد الأسلحة فتكا وتدميرا.

    نهدف من وراء هذه الإشارة السريعة إلى البرهنة على أن التنظير لمرحلة الإمبريالية الجديدة قد بلغ مرحلة التنفيذ مع وصول المحافظين الجدد إلى مركز صنع القرار, وليس من الصدفة أن نجد ضمن زمرة المحافظين الجدد المنظرين للحروب الوقائية, أو الاستباقية غلاة الأيديولوجية الصهيونية.


(( الحوار المجدي ))

    وأعود في نهاية هذا النص إلى إشكالية (حوار الثقافات) لأتساءل: ما هو الموقف الذي ينبغي أن تدافع عنه قوى الحرية والتقدم في العالم العربي ? يمكن تلخيص هذا الموقف في مقولة (لا بديل عن الحوار), ولكن الحوار المجدي الذي ينبغي أن تبادر إليه النخب في البلدان العربية يجب أن يتم مع قوى المجتمع المدني في البلدان الغربية, فالحوار ضروري, ولا بديل عنه لأن البديل الذي يطرحه الغلاة من الجانبين يعني الدخول في صراع حضاري وديني وعرقي يؤدي في نهاية المطاف إلى الفوضى, وإلى مزيد من البلقنة والضعف والتخلف في المنطقة العربية والإسلامية, وقد بدأت تلوح البوادر, وأخذ الاستراتيجيون العسكريون يتحدثون عن الأهداف الجديدة, وليس بعد العيان من بيان.
  إن مقولة (صراع الحضارات) مقولة أمريكية مؤدلجة وبدعة من بدع الفكر الصهيوني الشوفيني, ذلك أن دخول الغرب في صراع مع الإسلام والحضارة العربية الإسلامية, إنما يقدم خدمة كبرى لسياسة إسرائيل ولأطماعها التوسّعية في المنطقة, أما المقولة السليمة التي يجب أن تطرحها وتدافع عنها كل قوى السلام والتقدم في جميع بلدان العالم, فهي مقولة (حوار الحضارات), ذلك أن الحضارات بطبيعتها متفتحة ومتأثرة ومؤثرة, ولم يعرف التاريخ حضارة منغلقة, فالانغلاق معاد لطبيعة الحضارة.

    إنني أتفق مع المفكر الفلسطيني اللامع الراحل إدوارد سعيد عندما يقول في مقدمة الترجمة العربية لكتابه الشهير (الثقافة والإمبريالية): إن فكرة التعددية الثقافية لا تؤدي بالضرورة إلى الهيمنة والعداوة, بل تؤدي إلى المشاركة, وتجاوز الحدود, وإلى التواريخ المشتركة والمتقاطعة, وأضيف: بل تؤدي إلى أن يكون هنالك إرث ثقافي مشترك بين الشعوب.

    إن فكر ابن سينا, وابن رشد, وابن خلدون هو تراث فكري إنساني تشترك فيه جميع الحضارات, وليس خاصّا بتراث الثقافة العربية, وإنّ تراث فكر أفلاطون وأرسطو, وفكر فلاسفة عصر التنوير مثل فولتير, وروسو وكانط وغيرهم ليس تراثا فكريا خاصّا بالحضارة الغربية, بل هو تراث إنساني مشترك, إننا اليوم لفي حاجة ملحة إلى دعم هذا التوجّه, وإبراز الإرث الإنساني العام في ثقافات الشعوب, والوقوف أمام ذلك التيار المتطرّف الذي يحاول أن يثبت أن (صدام الحضارات) قدر محتوم لا مفرّ منه.


(( الهوية والخصوصية ))

    وأودّ التلميح في هذا الصدد إلى وجود أصوات في العالم العربي تثير قضية الهوية والخصوصية عندما يدافع أنصار الحداثة, وأنصار العولمة في جوهرها الإيجابي عن الثقافة الكونية, وكأن هنالك تناقضا بين الكونية والخصوصية, إن روافد الخصوصية تغذو الكونية, وتثري تنوّعها, فلا تعارض في نظري بين الخصوصية والكونية, بشرط ألا تتحوّل الخصوصية إلى شوفينية ترفض الإيجابي والحداثي لدى الآخر, فهنالك من يرفض اليوم الديمقراطية بحجة أن خصوصيتنا الثقافية لا تعرف هذا المفهوم, وإنما تعرف مفهوم الشورى, إن مفهوم (الشورى) مفهوم إيجابي ورائد في زمانه, وبخاصة الشورى الملزمة, ولكنه مفهوم تاريخي تراثي أفرغ من محتواه الأصلي منذ القرن الأول للهجرة لمّا نظّر فقهاء السلطة للشورى غير الملزمة.

    لا بدّ من الاستماتة اليوم في الدفاع عن مفاهيم أصبحت كونية, مثل الحريات العامة والديمقراطية, والمجتمع المدني, وحقوق الإنسان وغيرها, فالمعركة الحقيقية الملحّة اليوم في العالم العربي ليست معركة الخصوصية والهوية, بل هي معركة الحريات العامة والديمقراطية, إذ إن من لا حقّ له لا هوية له.

    وأستنجد في هذا المجال بتراث الفكر الإصلاحي في القرن التاسع عشر, فمفهوم الهوية لم يعرفه هذا التراث, وإنما عرف مفهوم الحرية, ومفهوم حب الوطن, وهو قريب من مفهوم الهوية. وعندما وضع مفهوم حب الوطن مقابلا للحرية اختار بعض المصلحين الحرية, واعتبروها هي الوطن الحقيقي, فالوطن ليس مجرد فضاء جغرافي, بل هو بالأساس حرية وحقوق, ومن الغريب أن يقف هذا الموقف الطليعي الرائد شيخ من شيوخ الزيتونة كان يتجول بعمامته ذات يوم من أيام شهر نوفمبر عام 1846 بشارع الشانزيليزيه في باريس رفقة أحمد باي في نزهة خاصة خارج البرنامج الرسمي لزيارة باي تونس, فجرى الحوار التالي بينهما, ولم يكن الشيخ أحمد بن أبي الضياف مجرّد موظف عند الباي, بل كان صديقه الشخصي, قال أحمد متشوقا إلى تونس: ما أشوقني للدخول من باب عليوة, (أحد أبواب مدينة تونس), وأشتم رائحة الزيت من حانوت الفطايري داخله, فقلت له مداعبا وأنا أتنفس في هواء الحرية, وأرد من مائها, وقدماي بأرضها: يحق لك ذلك لأنك إن دخلت من هذا الباب تفعل ما تشاء, أما الآن فأنت رجل من الناس, فقال لي: لا سامحك الله, لم لا تحملني على حب الوطن لذاته, وعلى أي حالاته ? فقلت له إن هذا الوطن ينسي الوطن والأهل, كما قال الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم
يعاب بنسيان الأحبّة والأهل

الأحد، 16 يناير 2011

علوم : الساعة البيولوجية.... عقارب تحرس الحياة

الساعة البيولوجية....عقارب تحرس الحياة


فى جسم كل إنسان ساعة بيولوجية تسمح له بأن يعيش بصحة جيدة ، وانسجام تام مع بيئته ، فيما إذا ضبط حياته مع عقارب الساعة فى النهار والليل ، فى الشتاء والصيف ، وفى سائر فصول السنة ، هذه الساعة تنظم أجسامنا الحيوية والبيولوجية بشكل دقيق ومتوازن .


   بعض الحيوانات تواصل حياتها نهاراً وأخرى تفضل الليل أزهار أوراقها تتفتح فى النهار وتنطوى فى المساء ، أشجار تفقد أوراقها فى الخريف ، وتكتسى حلة جديدة فى الربيع ، فالطبيعة تعبر عن الإيقاع ، إن كان فى النهار أو فى الليل أو فى أى فصل من فصول السنة .
   والإنسان يعيش بفعل تناوب النهار والليل ، ويكون أكثر فعالية ونشاطاً فى النهار منه فى الليل ، وهناك زمن للإنسان ليحلم وليفكر ، وزمن للعمل ، وزمن للنوم ، وزمن للحب ، فالإيقاع هو صفة أساسية للمادة الحية ، والعلماء الآن أصبحوا يعرفون جيداً إيقاعات جسم الإنسان وتغير وظائفه الفيزيولوجية عبر الزمن ، فكل يوم وكل شهر وكل سنة : شهيتنا للطعام ، نومنا ، إفرازات هرموناتنا تزيد أو تنقص حسب إيقاعات بيولوجية داخل أجسامنا وتؤثر فى سائر أمور حياتنا .
    فمثلاً أغلبية الوفيات تحصل نحو الساعة السادسة صباحاً لأن المقاومة المناعية والكريات البيضاء المختصة بمناعة جسم الإنسان تكون فى هذه الساعة مشتتة وضعيفة التأثير ، وفى هذا الوقت بالذات يكون الإنسان عرضة للهجمات القلبية والدماغية بسبب ارتفاع ضغط الدم وارتفاع مستويات عناصر التخثر فى الدم مما يمكن أن يؤدى إلى حدوث الجلطات القلبية أو السكتات الدماغية .
  
   غالبية الولادات تحصل نحو الساعة الرابعة صباحاً ، ليس لها علاقة بالقمر ، بل بإفراز هرمون الأوكسيتوسين الذى يحرض تقلصات الرحم وإفراز هذا الهرمون يكون فى أعلى مستوى له فى آخر الليل ، فالجسم يتعرف على الوقت بفضل ساعات متعددة ذات تركيز مشترك ومخبأة فى أعضاء الجسم كالكليتين والكبد وغدة البنكرياس وفى الدماغ ، وعلماء تاريخ الزمن البيولوجى اكتشفوا وجود مركزين فى الدماغ مسئولين عن تنظيم هذه الساعة ، وهما النواة فوق التصالب البصرى والغدة الصنوبرية ، فهذه الغدة مثلاً تفرز فى الدم هرمون الميلاتونين أثناء النوم ليلاً ويتوقف إفرازه فجراُ ، ودور هذا الهرمون أساسى وذو إيقاع متناغم مع الأيام والفصول ، ويؤثر بشكل مباشر فى نومنا واجسامنا تتأثر بعناصر مختلفة واهمها : حرارة الجسم - الضغط الشريانى - عناصر الدم ، فالتغيرات فى حرارة الجسم تكون بشكل دائم وعلى مدار اليوم ، وهى أكثر انخفاضاُ نحو الساعة الثالثة والرابعة صباحاً ، وترتفع تدريجياً لتبلغ حداً أعلى ، ومن ثم بالهبوط نحو الساعة الثامنة مساء ، والضغط الشريانى يختلف أيضاً بين فترة وأخرى فى الليل أو فى النهار ، ولهذا نجد الأطباء يسجلون ساعة قياس ضغط دم مرضاهم ، أما عناصر الدم ، فالكريات البيضاء يزداد تعدادها فى المساء ، والكريات الحمراء أكثر صباحاُ .



(( ساعات فى أعماقنا ))

   لجسم الإنسان زمن من الحيوية والنشاط ، وزمن للراحة ولأجل أن يكون الإنسان نشيطاً بالليل يتطلب منه ذلك بذل طاقة أكثر من النهار مما يجعل الإنسان مرهقاً فى عمل الليل ، ونحن نعيش جميعاً حسب إيقاعات الساعة البيولوجية أكثر أو أقل ، وفى أعماقنا آلية متناغمة مع الساعة البيولوجية تتحكم بطريقة غذائنا ونومنا ونشاطنا الجنسى والجسدى والفكرى والعلاجى ، فالغذاء : الساعة البيولوجية تقودنا ببساطة إلى أن نختار حاجتنا الغذائية من أجل أن نحافظ على لياقتنا البدنية وعلى صحتنا .
* صباحاً : يجب أن يحتوى فطورنا أكثر على السكريات لنكون أكثر نشاطاً فى النهار ، فالسكريات السريعة تتحول مباشرة إلى طاقة ، والسكريات البطيئة تسمح لنا أن نقاوم حتى الغداء ، وأحياناً نحن نستهلك هذا المخزونات من الطاقة بسرعة ، وعلى أثر ذلك نشعر ببعض الوهن والتعب حوالى الساعة الحادية عشر صباحاً ، ويفضل فى هذا الوقت بالذات تناول قطعة من الفاكهة أو عصير الفاكهة .
* ظهراً : الغداء يجب أن يكون وجبة اساسية تؤخد نحو السعة الثانية عشرة او الواحدة بعد الظهر ، إذ إنها تضيف إلى الجسم مزيداً من الطاقة ، وتجعلنا نقاوم حتى المساء ، وأهم محتويات هذه الوجبة ( لحوم - أسماء - خضار ) .
 
* مساءاً : أجسامنا لا تستهلك سوى قليل من الحريرات ، يجب إذن تلاقى الأطعمة الغنية بالدسم والدهون ، وتفضيل الخضار والفواكه ، واحياناً بعض اللحوم البيضاء 
.
* النوم : ساعتنا البيولوجية مبرمجة على إيقاع أربع وعشرين ساعة ، وليس عن طريق الصدفة أننا ننام فى المتوسط من ثمانى إلى عشرة ساعات فى اليوم ( بعض الشخاص ينامون أكثر ، وبعضهم أقل ) ، وذلك بشكل متناغم مع حرارة الجسم والتى تنخفض ليلاً ، وليس المهم إتباع ساعة معينة للخلود إلى النوم أو للاستيقاظ ، لكن بكل بساطة ، يجب أن نصغى إلى أجسامنا ( إذهب إلى النوم عندما يكون عندك إحساس بالحاجة إلى النوم ) ، ولكن من المفضل لصحة الإنسان نوم الليل ، حيث إن قسماً كبيراً من النوم فى النهار يجعل الإنسان معرضاً للتعب ، وأحياناً للاكتئاب .
 
* النشاط الجنسى : تزداد الرغبة الجنسية عند المرأة فى الربيع ، وعند الرجل فى الخريف ، والنشاط الجنسى عند الرجل والمرأة مبرمج حسب مرحلة زمنية مدتها اثنا عشر شهراً ، وتتأثر بالإفرازات الهرمونية ، فعند الرجل هرمون التستوسترون يحث على إفراز الحيوانات المنوية ، والزمن الأكثر نشاطاً عنده هو فى منتصف الخريف ثلاث ذروات ( الثامنة صباحاً - منتصف بعد الظهر - الثانية عشرة ليلاً ) ، وعند المرأة آلية الإباضة تكون فى اليوم الرابع عشر عند إمرأة دورتها الطمثية 28 يوماً ، ويترافق ذلك مع زيادة الرغبة الجنسية ، مما يمهد لعملية تلقيح البويضات ، وإفراز الهرمونات عند المرأة يكون فى أعلى مستوى له فى الربيع ( مارس وأبريل ) .


  
النشاط الجسدى والأداء الفكرى : يكون فى الصباح الباكر بين التاسعة والحادية عشرة ، والتيقظ والذاكرة والتعلم والطاقة الجسدية تكون فى أوجها ، وبين الساعة الحادية عشرة والثانية عشرة ظهراً حرارة الجسم تنخفض محدثة تعباً بيولوجياً طبيعياً ، ومن الساعة الرابعة عشرة إلى الساعة السادسة عشرة فترة تعب بيولوجى أيضاً ، ومن الساعة السادسة عشرة والنصف إلى الساعة الثامنة عشرة مرحلة جيدة من أجل الأداء الجسدى والتفكرى ، مساءاً من الساعة الثامنة عشرة إلى الساعة الثانية والعشرين حرارة الجسم ترتفع من جديد ، وبالتالى عودة النشاط والطاقة ، وليلاً من الساعة الثانية والعشرين إلى الساعة الثالثة والعشرين الشعور بتعب ومرحلة النوم والراحة تبدأ ، إذن النشاط الجسدى والفكرى هو أفضل عندما تكون حرارة الجسم مرتفعة وبالعكس .


(( هذه الإيقاعات ))

   إن معرفة البشر ببرامج الساعة الحيوية ينبغى أن تجد تطبيقاً لها عند التعامل مع الجسد ، بأى إضافات خارجية ومنها الأدوية ، فهى أيضاً تعمل حسب الساعة البيولوجية وبعض الأدوية المعروفة توصف فى اوقات معينة ، وفاعلية كل دواء تختلف حسب لحظة تناوله فى النهار أم فى الليل ، فى الشتاء أم فى الصيف ، وخلايا الجسم مبرمجة مع الزمن من أجل أن تعمل أكثر فى الساعات ، وأقل فى ساعات أخرى ، وأجسامنا تعمل كالساعة مع حركات خاصة بها ، وتأثير الدواء يتوافق مع بدء عمل الخلية واللحظة التى يصل إليها الدواء ، وبذلك نستطيع أن نتجنب الأعراض الجانبية إلى الحد الأدنى ، ومن سمية بعض الأدوية كأدوية السرطانات .


* أدوية الروماتيزم والأسبرين : إذا أعطيت مساءاً أعراض النزف تنخفض إلى النصف لأن الأسبرين ينطرح بشكل أبطأ صباحاً ، وأسرع ليلاً لهذا ينصح الأطباء ياعطائه مساءاً . 


* أدوية ارتفاع ضغط الدم : يفضل إعطاؤها على شكل دواء مديد يعمل على مدى 24 ساعة أو إعطاؤه مساءاً قبل النوم لأن ضغط الدم يرتفع بين الساعة السادسة والثامنة صباحاً .


* أدوية السرطان : بعض أدوية السرطان إذا أعطيت فى الساعة السادسة صباحاً وبعضها الآخر فى السادسة مساءاً تكون سمية الدواء أقل بكثير ، وبذلك نستطيع أن نرفع من جرعة الدواء من 20 إلى 40% بشكل آمن ونضاعف بذلك الفعالية المضادة للسرطان ، وخاصة سرطان الكلية والرئة والثدى .


* المضادات الحيوية : لكل مضاد حيوى عمله الخاص به ، وأخذه على معدة فارغة أو أثناء الطعام أو بعد الطعام مباشرة ، وبعضها يؤخذ مع كمية كافية من الماء كالتتراسكلين والأموكسيسللين ، وهذا بدوره يرتبط بالإيقاع الحيوى.


*أدوية الربو : بعضها تكون فعاليته أكبر عندما يعطى نحو الساعة السابعة أو الثامنة مساء مثل الثيوفللين ، وكذلك مضادات الهيستامين ( مضادات الحساسية ) ، وفى حال استخدام الكورتيزون لمرضى الربوية تحصل فى الليل .


*أدوية التخدير الموضعى : تكون فعاليتها أكبر نحو الساعة الثالثة بعد الظهر ( بحيث تكون الجرعة التخديرية مرتين إلى ثلاث مرات أقل ) ، أما أدوية التخدير العام فهى الآن قيد الدراسة أو التجربة عند الحيوانات .


* أدوية الصداع النصفى : المصاب بنوبات صداع نصفى فى وقت معين من النهار ، يجب إعطاؤه جرعات كبيرة وكافية من الأدوية المضادة للصداع قبل النوبة بست ساعات .


* الأدوية العصبية والنفسية : عند أغلب المرضى تكون الساعة البيولوجية معطلة ، ففى حال الاكتئاب - مثلاً يفضل معالجته أولاً لإعادة عقارب الساعة البيولوجية إلى وضعها الطبيعى ، حيث يفضل إعطاء أدوية الاكتئاب مساءاً ، والمهدئات صباحاً .
*مدرات البول : فعاليتها تكون فى أعلى مستوى قبل الساعة العاشرة صباحاً .


* علاجات مختلفة : تعطى قبل الطعام مباشرة مثل بعض أدوية ارتفاع ضغط الدم ، موسعات الأوعية ، مضادات حموضة المعدة والمقويات ( الفيتامينات ) .


   باختصار ، قدرة أجسامنا على طرح الترسبات السامة وتقوية اجسامنا ، واداؤنا الفكرى يخضع لتغيرات مهمة خلال ال24 ساعة ، توجد إذن على مدار اليوم لحظات مناسة للنشاط الجسدى والفكرى ، وأخرى للغذاء والراحة ولحظات من أجل النوم ، كما أن اضطرابات النوم وحدوث الاكتئاب وبعض مؤشرات ظهور المراض وبعض السرطانات تحصل نتيجة عدم تناغم حياتنا اليومية مع عقارب الساعة البيولوجية .

السبت، 15 يناير 2011

علوم : ثورات الطبيعة ... بين الإعتدال والطغيان

ثورات الطبيعة بين الإعتدال والطغيان


لا يكاد الإنسان يلتقط الأنفاس فيما بين ثورات الطبيعة ، إلا ويباغته فيض جديد ، وهذه المرة لم تأته ثورة بمفردها ، وإنما تعاضدت عليه رجات مزلزلة بقاع محيط سحيق ، تلاها طوفان هائل اكتسح الزرع والضرع والمأوى .


   عرف الإنسان الزلازل ، ذلك العدو المدمر ، وما تتعرض له الأرض سنوياً من أعدادها العظيمة ، لا يشعر بمعظمها ، إما لضعفها أو لحدوثها فى مناطق غير مأهولة ، فهو لا يحس بها عادة إلا حين تشتد إلى نحو أربع درجات على سلمها العلمى ريختر ، ويعرف جيداً خطورتها إذا ما زادت عن سبع درجات .

وفى المحاولات المضنية لتفسيرها ، تبلورت فى العام 1968 نظرية جامعة لكل التفسيرات العديدة التى امتدت لقرابة نصف قرن ، وانتظمت تلك النظرية مع معظم النظريات السابقة وخاصة نظرية الانجراف القارى ، بل وأقامت الدليل على صحتها ، وأطلق على تلك النظرية : الصفائح أو الألواح التكتونية ، التى تفسر أن القشرة الأرضية ليست متصلة ، بل مقسمة بشبكة من الصدوع إلى عدد من الألواح أو الصفائح التى تتحرك دوماً ، كل صفيحة منفردة ، كوحدة مستقلة متماسكة ، تسبح فوق غلالة من الصخور شبه المنصهرة من الطبقة التالية للقشرة الأرضية ، وتتعرض حدود تلك الألواح دوماً للإجهاد والشد ، مما ينتج طيات بفعل الإجهاد المستمر وتصدعات بفعل الإجهاد العنيف المفاجىء .

((أحزمة مهلكة))

   بمراقبته لمواقع الزلزال على اليابسة ، وجد الإنسان أنها لا نتنشر عشوائياً ، بل يتركز معظمها فى أحزمة رئيسية تمتد مسافات طويلة عبر البحار والقارات ، اشهرها وأقولها تلك الممتدة بطول الساحل الشرقى للمحيط الهادىء والتى تكون شريطاً طويلاً يحاذى غرب الأمريكتين واليابان والفلبين ويصل إلى استراليا ونيوزيلندا ، مشكلاً نحو 68% من زلازل العالم ، ومنها تلك التى حدثت فى ألاسكا العام 1964 ، وبيرو العام 1970 ، وشيلى العام 1985 ، واليابان عامى 1923 و 1995 ، ويعرف هذا الحزام بـ " حلقة النار " لأن الزلازل فيه تتصاحب غالباً مع انبثاق بركانى ، كان من اشدها ما حدث فى كولومبيا فى 14 نوفمبر العام 1992 ، حين انبثق فى اليوم التالى للزلزال حمم بركانية هائلة على جبال الأنديز .

   ووجد الإنسان أيضاً أن الحزام الثانى يقع على طول الساحل الغربى للمحيط الهادىء بدءاً بجزر اليابان شمالاً حتى أندونسيا جنوباً ، مروراً بقوس جزر تايوان ، والحزام الثالث يمتد عبر أفريقيا واوروبا وآسيا ، من جبال أطلس شمال إفريقيا ، عبر البحر الأبيض المتوسط وإيطاليا واليونان وتركيا حتى الصين ، ويعرف بحزام جبال اللب ، وفيه يقع نحو 21 فى المائة من زلازل العالم .
وكان أن أطلق كلمة " تسونامى Tsunami " ذلك التعبير اليابانى الذى يعنى " أمواج الميناء " على التيارات البحرية الزلزالية العنيفة ، فاصلاً بينه وبين المد البحرى المألوف ، مؤمناً بأن الزلازل ليست وحدها هى السبب الوحيد لحدوث تسونامى ، لكنها الأغلب ، يضاف إليها تأثيرات أخرى كالثورات البركانية وسقوط الأجسام الفضائية الهائلة .

(( سجل حافل بالمد ))

   حين يستعرض التاريخ بعضاً من ظاهرة تسونامى ، يجد أن أقدمها ربما ذاك الذى ضرب الطرف الشمالى من بحر إيجة عام 479 قبل الميلاد ، كما شهد القرنان الماضيان أعداداً كبيرة منها - تركت مظاهر عديدة من الإهلاك والدمار - لعل أهمها ، تلك التى ضربت الساحل الشرقى من جزيرة هونشو اليابانية ، نتيجة زلزال بحرى ضخم انطلق فى 5 يونيو 1896 فى منطقة الصدع تحت البحرى بأخدود اليابان ، فقد اندفعت أمواج البحر الزلزالية نحو اليابسة بارتفاع نحو 30 متراً وغمرت قرى بأكملها ، وجرفت أكثر من عشرة ألاف منزل ، وأغرقت نحو 26 ألف شخص ، وأنتشرت أمواجها شرقاً عبر المحيط الهادىء لتصل إلى جزيرة هيلو فى هاواى ، ثم توجهت إلى الساحل الأمريكى وانعكست مرتدة تجاه نيوزيلندا وأستراليا .

    كما شهد القرن العشرون عدة كوارث من التسونامى ، فقد انطلق القرن مع زلزال ومد بحرى ضاربين جزيرة صقلية الإيطالية العام 1908 وأسفر عن مقتل ما يناهز 100 ألف شخص ، خصوصاً فى مدن مسينا وريدجيو دى كالابريا وبالمى .

وفى العام 1960 تعرضت اليابان أيضاً لمد بحرى زلزالى ، بلغت سرعته 75 كيلو متراً فى الساعة وكان نتيجة للزلزال الذى شهدته شيلى ، مؤدياً إلى أرتفاع سطح الأرض بتسعة أمتار ، وقد تولدت موجة التيارات البحرية الزلزالية عن التصدع التكتونى داخل المحيط والتى يصل عرضها إلى مئات الأمتار والتى ترتفع طاقتها كلما اصطدمت بصفيحة فى عمق البحر .

   وفى شهر سبتمبر العام 1992 ، دمر مد بحرى زلزالى آخر مساكن حوالى 12 ألف شخص على سواحل نيكاراغو ، شهران بعد ذلك أدت سلسلة من الأمواج المحيطية الضخمة إلى محو عدة قرى فى منطقة بالى بإندونسيا ، وكانت مسئولة عن مقتل آلاف الأشخاص .

   وفى 17 يوليو العام 1998 ، وبعد  حدوث هزتين أرضيتين بقوة 7 درجات على سلم ريختر ، ضرب مد بحرى زلزالى مصحوباً بثلاث موجات ضخمة بارتفاع عشرة أمتار ، ثلاثين كيلومتراً من سواحل شمال منطقة بابوازيا فى غينيا الجديدة ، مما أدى ِإلى إزالة سبع قرى من الخريطة وإلى مقتل 2123 شخصاُ على الأقل .

   ولم يشهد العالم منذ نحو أربعة عقود ،زلزالاً يضاهى قوة الزلزال العنيف الأخير - خامس أشد زلزال عرفه على اليابسة منذ مائة عام - الذى ضرب دول جنوبى شرقى أسيا فى نهاية العام المنصرم ، فيما بين أندونيسيا وسيريلانكا والهند وتايلاند وماليزيا وجزر المالديف ، بل وأمتدت آثاره حتى الصومال والذى أودى بحياة أعداد هائلة من البشر ، إضافة إلى ما يزيد على نصف مليون جريح وملايين المشردين والمهددين بالأمراض والأوبئة ، وخسائر تقدر بمليارات الدولارات .

   وكان مركز الزلزال ، غلى الغرب من القسم الشمالى من جزيرة سومطرة الإندونيسية ببعد 250 كيلومتراً من الساحل الجنوبى الشرقى لإقليم " باندا أتشيه " و 320 كيلومتراً ، إلى الغرب من مدينة ميدان مسبباً موجات مد طوفانية بارتفاع عشرات الأمتار ، وقد بلغت قوته بحسب " المعهد الجيلوجى الأمريكى " قرابة 9 درجات على مقياس ريختر ، وبالرغم من ذلك ، يظل زلزال تشيلى للعام 1960 الأعنف الذى تم تسجيله منذ مطلع العام 1900 حيث بلغت قوته 9.5 درجة .

   وقد أوضح مدير المعهد الوطنى الإيطالى للجيوفيزياء أنزو بوش ، أن قوة ذلك الزلزال " حدث نادراً جداً " مضيفاً " أن هذه الزلازل تنتج عن تغييرات بقشرة الأرض بسبب تجمع طاقة هائلة ، وعندما تبلغ الطاقة المتجمعة والتغير مستوى خطيراً يحدث إنكسار ، وتكون شدة الزلزال بقدر ما يكون الإنكسار قوياً " ، وتابع " فى الحالة التى وقعت فى جنوبى شرقى آسيا تفاقم الوضع ، لأن الانكسار حدث فى عرض البحر ، مما تسبب فى ارتفاع عنيف فى الموج انتقل بسرعة هائلة " .


(( آسيا .. تاريخ مع الفياضانات والزلازل ))

   حصدت الكوارث الطبيعية فى آسيا ، خاصة الفيضانات والزلازل ، أكبر عدد من الأرواح لذا فهى تعد الأسوأ فى العالم على مر السنين .

    وتعد الصين ، البلد الأكبر سكاناً فى العالم ن الهدف الرئيسى لتلك الكوارث ، ففى العام 1920 ، ضربت هزة أرضية مقاطعة نينجزيا فى شمال غرب البلاد ، واسفرت عن مقتل نحو مائتى ألف شخص وفى السنين الإثنتى عشرة التى تلت ، شهدت الصين سلسلة من الكوارث الطبيعية ، وعاش هذا البلد اسوأ الكوارث التى حلت بالعالم فى تلك الحقبة ، ففى مايو العام 1927 ن قتل 200 ألف شخص فى زلزال ضرب مدينة ناشان جنوب البلاد ، وبعد خمس سنوات فقط ، أودى زلزال آخر ضرب مقاطعة جانسو شمال غرب الصين بحياة 70 ألفاً ، واستمرت الكوارث الطبيعية باستهداف هذا البلد الذى بات معتادا عليها ، وأسفرت السيول والفيضانات سنوياُ عن مقتل الآلاف ، لكن الفيضانات الأسوأ حدثت العام 1931 عندما فاض نهر يانجتسى وأغرق نحو ثلاثة ملايين شخص .
    أيضا، الزلزال الذى وقع فجر 28 يوليو العام 1976 ، حيث هز زلزال عنيف مدينة تانجشان بشمال الصين ، ما أسفر عن مقتل ما يناهز 700 ألف شخص ، وشأنهم شأن سكان سواحل جنوب شرق آسيا فى نكبتهم الأخيرة ، لم يتلق سكان تانجشان أى إنذار لحدوث هذه الكارثة التى حلت بهم وهم نيام ، وقد دمر الزلزال الذى استمر 15 ثانية 93% من المبانى السكنية .

   وفى بنجلاديش ، حصدت الفيضانات أعداداً هائلة من الضحايا ، كتلك التى ضربت جنوب البلاد العام 1942 وقتلت 61 ألف شخص ، والعام 1970 حيث أودت بحياة 300 ألف شخص ، وفى العام 1991 شهدت بنجلادش كارثة من اسوأ الكوارث الأخيرة بمقتل 139 ألف شخص فى فضايانات ضخمة ، لذا فقد اعتبر الخبراء أن الفيضانات هى الأكثر حصداً للأرواح بين الكوارث الطبيعية التى تضرب الأرض ، وبالرغم من أن الزلازل تسفر عادة عن أعداد كبيرة من القتلى .

(( نحن والتسونامى ))

   عن أقرب النقاط لمنطقتنا العربية ، البحر الأبيض المتوسط ، يوضح ميشال فيلنوف عالم الجيلوجيا الفرنسى بجامعة بروفانس ، أنه " عندما يكون هناك نشاط زلزالى ومسطح مائى ن فإن خطر وقوع حركة مد بحرى كبيرة قائم ولا يمكن الاستهانة به " ، ويضيف " إن محرك النشاط الزلزالى هو منطقة اندساس اللوح الإفريقى تحت اللوح الأورو آسيوى ، الواقع تحت منطقة الأطلس فى شمال إفريقيا من المغرب حتى تونس ، وتمتد أيضاً فى البحر حتى شمال صقلية " .


   ويرى الخبراء أن 80% من موجات المد البحرى الهائل تسجل فى المحيط الهادىء و 10% فى المحيط المتوسط حيث قوتها أضعف بشكل وسطى - على ما يطمئن فيليب لونيونيه مدير قسم الجيوفيزياء الفضائية والكونية فى معهد فيزياء الكرة الأرضية بباريس ، وثمة سببان وراء ذلك : إنخفاض القوة الوسطية للزلازل فى البحر المتوسط ، وصغر مسطح المياه ، الأمر الذى لا يسمح للموجة بأن تجمع الكثير من القوة كما حدث فى آسيا .

   بالرغم من ذلك ، فإن خطر وقوع حركة مد بحرى هائل ، قائم أيضاُ فى البحر المتوسط ، حيث سجلت هذه الظاهرة فى الماضى كما ذكر ، ويأسف العلماء لعدم وجود نظام إنذار مبكر فى تلك النطقة يدق ناقوس الخطر لمواجهة مباغتات الطبيعة المحتملة .

   ونظرياً ، لايمكن استبعاد سيناريو أن تضرب موجة تسونامى السواحل الفرنسية عند مستوى سهل الكامارغ ، ويصل المد حتى مدينى آرل على بعد 25 كيلومتراً من الساحل ، كما يحذر فيلنوف ، وقد طالت آخر موجة تسونامى صغيرة خلفها زلزال بومرداس ( الجزائر ) فى شهر مايو عام 2003 - من دون أن تسفر عن ضحايا - جزر البالييار ، والسواحل الفرنسية ، حيث انحسر مستوى المياه مؤقتاً 5.1 متر فى بعض الأماكن .

   ويتوقع تابونييه أن بحر مرمرة فى تركيا ، قد يكون على الأرجح المسرح المقبل لموجة تسونامى ، أصغر من تلك التى شهدتها آسيا أخيراً ن لكن الكثافة السكانية الكبيرة قد تجعل منها موجة قاتلة ، ويقول لونيونيه " إن الظواهر تتكرر فقط كل عشر أو خمسين سنة ، مما يخفف من وطأة الخطر فى آذهان السلطات والسكان ، وفى حين يتمتع المحيط الهادىء بنظام إنذار تشارك فيه 26 دولة ، فإن البحر المتوسط والمحيط الهندى يفتقران إلى نظام كهذا " ، ويقول تابونييه " إن ما حدث فى آسيا سيدفعنا ربما إلى التفكير ، حتى لو كان ذلك لا يشكل أولوية بالنسبة للدول ، وهذا الأمر مؤسف جداً " .

  باتريك سيمون ، مدير مكتب المخاطر الطبيعية فى وزارة البيئة الفرنسية ، يوضح أن الأمر الذى يعقد الإنذار هو أن عرض المتوسط يبلغ نحو ألف كيلومتلااً فقط ، مما يعنى أن موجة تسونامى يمكن أن تعبره فى ساعة أو أكثر بقليل ، وشدد على أن فرنسا بدأت دراسة لتحديد تواتر حدوث موجة من هذا النوع .

  
   عالم آخر ، جيراسيموس بابادوبولوس ، من معهد الجيوديناميك فى مرصد أثينا ، يؤكد أن فى اليونان التى شهدت أكبر نشاط زلزالى فى أوربا ، يقوم خبراء الزلازل بأول إجراءات لمسح مخاطر التسونامى ووضع نظام إنذار بعد فترة .

   " وعلى مدى ألفى سنة ، سجل نحو عشرين مدا عالياً فى البحر المتوسط ، كان بعضها قاتلاً ، كما حدث فى العام 551 م على طول الشاطىء اللبنانى السورى ، وفى مصر ، فى القرنين الرابع والرابع عشر ، وفى مسينيا ( إيطاليا ) العام 1908 " ، وليس هذا بالكثير ، على ما يقول بول تابونييه عالم الجيولوجيا فى معهد فيزياء الكرة الأرضية فى باريس .

   وتنتشر الصدوع فى البحر المتوسط ، حيث يوجد صدع ن شبيه بصدع سومطرة ، يمتد من البحر الأيونى حتى رودرس ، تسبب فى العام 365 م بمد بحرى امتد حتى صقلية ومصر ، وأدى إلى مقتل عشرات الآلاف من الأشخاص على ما يوضح ذلك العالم .

الأربعاء، 12 يناير 2011

ثقافة وأدب : كيف انتبه العرب لأدب الأطفال؟



(( كيف انتبه العرب لأدب الأطفال؟ ))



يتفق الدارسون على أن أدب الأطفال عرف فى المجتمعات كافة ، غير أن أشكاله تغيرت مع تغيير هذه المجتمعات ، والمثير أن البعض يرى أن نشأة هذا الأدب كانت متماثلة فى مختلف هذه المجتمعات .




   تكشف الدراسات الأكاديمية الباحثة عن مصادر آدابها الأولى والتى تدل على تنوع هذه المصادر ، كما هى الحال فى أصول الآداب الشعبية الغربية مثلا ، والتى ورثت عن العرب ، كما ورثت عن الجذور الكلاسيكية ( يونانية - رومانية ) ، ثم المسيحية ( مسيحية - يهودية ) ، كذلك حال أدب الأطفال الغربى الذى ورث عن الآداب العربية الكلاسيكية ما ورثه كما فى قصص لافونتين التى عاد العرب فأخذوا عنها ما أخذوا .

   وقد سبقت أوربا فى النوع الأدبى للتوجه نحو الأطفال ، أما فى بلاد العرب ، فمن الصعب تحديد نقطة البداية تماماً إلا مما يمكن أن نعتبره إرهاصات فى هذا المجال تجلت فى أغانى ترقيص الأطفال أو اغانى المهد lullaby والتى تنتشر فى كل اللغات ، الأمر الذى يكاد يحصرها فى بوتقة التراث الشعبى والفولكلورى ، كذلك فى القصائد التى كتب الشعراء فيها عن أولادهم راثين أو مشفقين أو شارحين امتداهم الوجودى لهم ، أما بالنسبة للقصة ، فقد عرف العرب قديما كما سائر الشعوب تراثاً شعبياً قصيصا عبر عن روح الشعب وعقله وطرق حياته ، وفكرته عن الحياة ، وشكلت القصص جانبا مهما من جوانب الأدب عندهم فى الجاهلية ، حتى إنهم فتنوا بالأساطير وروايتها وبحكايات الأبطال والمعارك والانتصارات والفروسية والتقاليد والصفات السامية التى أرادوا تكريسها فى نفوس السامعين ، وكان لقصص الجاهلية دلالات شعبية نظراً لتصويرها الدقيق للمجتمع الجاهلى بما فيه من أمور إيجابية ، كالتمسك بالقيم الأخلاقية السائدة وأمور سلبية ، كالظلم والغدر والعدوان والقسوة ، وإن كان يؤخذ عليها اهتمامها بالأبطال والملوك والشيوخ وإهمالها العامة والناس العاديين والأطفال .

   
   عندما جاء الإسلام ، " نعثر أول ما نعثر على ما جاء فى القرآن الكريم من قصص القرون السالفة ، والأنبياء مع أقوامهم ، فنرى قصة ( يوسف عليه السلام ) مع أخوته وأبيه وعزيز مصر ، تمثل القصة الفنية الكاملة " ، هذا عدا ما يحفل به القرآن الكريم من قصص تصلح أن تكتب للأطفال والناشئة بأسلوب مبسط سهل يحبب إليهم الدين ويقربهم منه ، والقرآن الكريم جاء للناس بالقصص للعبرة والتذكرة والموعظة الحسنة ، كى يستفيد السامعون من تجارب السابقين ، ويتبينوا طريق الخير فيتبعونها ، مبتعدين عن طريق الشر والتكبر والتسلط والإلحاد والوثنية والإشراك بالله ، وقد اعتمد القرآن الكريم على القصص لأنه وقت نزوله على الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - كانت القصص وروايتها فناً منتشراً بين القبائل العربية المنشرة فى أرجاء الجزيرة آنذاك وهذا ما جعل الأمهات المسلمات يحكين لأطفالهن قصص الدين الجديد وبطولات الرسول ، وازداد نشاط القصص الدينى ، وكثرت القصص التى تحكى للطفال ، فى العصر الإسلامى خصوصاً فى عهد الأمويين ، وربما كان ذلك بسبب الاهتمام العام بهذا الفن ، فقد عين الخلفاء من العصر الأموى ( 40 - 132 هجرية ) وما بعده قصصا يقصون على الناس سير الأنبياء والملوك فى المساجد ، كما عنى الخلفاء أنفسهم بالاستماع إلى التاريخ والقصص ، وفى القرن الرابع الهجرى وضعت المقامات وهى قصص أدبية قصيرة ، وفى مصر اتسع القصص منذ عهد الفاطميين ووضعت أعظم القصص العربية واطولها ، وهى قصة عنترة " ليوسف بن عبد العزيز فى عهد العزيز بالله الفاطمى ( 365 - 386 هـ ) " ، وقد نشرت فى اثنين وسبعين جزءا ، وفى أثناء الحروب الصليبية ألفت فى مصر قصص تمجد مآثر الأبطال كسيرة الظاهر بيبرس ، وقصة سيف بن ذى يزن ، والأميرة ذات المهمة ، وفيروز شاه ، وعملت مصر منذ القرن الخامس الهجرى على إتمام " ألف ليلة وليلة " حتى أوصلتها إلى صورتها الحالية قى القرن العاشر الهجرى .

(( أنواع القصة ))
    والقصة عند العرب قسمان : مترجم دخيل ، وعربى أصيل ، النوع الأول يمثله كتابا ( كليلة ودمنه ) و ( ألف ليلة وليلة ) اللذان قدما للأدب العربى والعالمى أجمل القصص المتأثرة بهذين الكتابين ، سواء من حيث استخدام الحيوان كرمز ناطق ، أو من حيث الخيال الجامح والحكايات المتداخلة ، أما النوع الثانى ، فمنه ( مقامات بديع الزمان الهمذانى ) و( مقامات الحريرى ) و ( رسالة الغفران ) للمعرى ، وهى رحلة تخيلها أبو العلا المعرى فى الجنة وفى الموقف والنار ، وقصة ( حى بن يقظان ) لابن طفيل ، حيث تلحظ جوانب نضج قصصى فى الشرح والتبرير والإقناع ، كما قدم الجاحظ قصص البخلاء وقصص الحيوان فى كتابى ( البخلاء ) و ( الحيوان ) وقدم ( قصة الكندى ) التى  اعتبرها عبد الملك مرتاض " أجمل من القصة وارقى المقامة وأطرف من الحكاية وأمتع من المقالة " ، كما اعتبر الجاحظ  " أكتب كتاب العربية إلى يومنا هذا " ومن النوع الثانى أيضا القصص الشعبى وسير الأبطال كسيرة عنترة وقصة الزير سالم وقصة بنى هلال ، وقصة الملك سيف بنى هلال وقصة الملك سيف بن ذى يزن كذلك وقائع على بن ابى طالب " رضى الله عنه " مع عتاة الجن والغيلان والكائنات الشريرة ، وغيرها ، كما كان لهم قصص على لسان الحيوان ويمكن أن يقال إجمالاً إنها كانت فطرية أسطورية تشرح ما سار بين الناس من امثال ، وإما مأخوذة من كتب العهد القديم ، وما عدا هذين ، فمتأخر عن ( كليلة ودمنة ) ومتأثر به كما فى بعض قصص الحيوان عند الجاحظ ، ولعل قراءاتنا لتراثنا تكشف لنا الكثير من القصص الممتعة التى تحقق مقومات القصة الفنية ، وما علينا إلا البحث الجاد للاكتشاف وإثبات أن المجتمع العربى الشعرى القديم   المنبثق من حضارة البادية القحة ، كان يملك فن القصة التى شكلت مصدراً من مصدرى القصة فى ألأدب العربى الحديث ، أما المصدر الثانى فغربى ترجم إلى العربية بعد الإتصال بالغرب أثر حملة نابليون لمصر ، والتى حملت معها تقنية الطباعة ، وشجعت على الترجمة بزعامة رفاعة الطهطاوى ، فحافظ إبراهيم ونجيب حداد وفرح أنطوان وغيرهم حيث شجعت الترجمة الأدباء العرب ، فيما بعد ، على التأليف فى هذا الفن متخذين من الحياة العربية موضوعاً لرواياتهم .

(( بدايات أدب الأطفال ))

   أما إذا أردنا البحث عن بدايات أدب الأطفال العربى ، فلابد لنا من العودة إلى أسباب نشوء وازدهار هذا الأدب ، وبعيداً عن حصر هذه الأسباب فى عامل واحد ، فإن الأسباب الواقعية أبعد من ذلك ، أهمها :
أ- بروز الطفل فى الساحة الثقافية العالمية ومن ضمنها العربية .
ب- انتشار التعليم .
ت- الترجمة والاقتباس .

   فإذا ما بدأنا بالعامل الأول وجدنا أن الطفل العربى برز فى الساحة الثقافية مطالباً بزاد ثقافى خاص قد يكون عامل المثاقفة Enculturatio - أى حيازة الثقافة الخاصة - قد لعب دوره فى الحث على خلق أدب يشبه ما يقدم للطفل الغربى ، تماماً كما حصل وقت ترجمت القصص الفرنسية الأولى إلى الإنجليزية فشجعت الأدباء الأنجليز على الكتابة .
   وكان انتشار التعليم من أبرز العوامل فى نشوء أدب الأطفال فى التراث العربى الحديث ، وقد ورد فى تقرير التمية البشرية الصادر عام 1996 عن هيئة الأمم المتحدة لبرنامج التمية " أن معدلات الالتحاق بالتعليم الابتدائى ( فى البلدان العربية ) تضاعفت أكثر من مرتين خلال الفترة 1960 - 1990 من 38% إلى 77% كما أن معدلات الأمية بين الكبار انخفضت من حوالى 70% عام 1967 إلى حوالى 46% عام 1992 " ، ويدل التقرير على مدى انتشار التعليم الذى يعنى حاجة الأطفال إلى أدب خارج إطار المدرسة كما هم بحاجة إلى الكتب المدرسية التى ساهم الأدباء والشعراء العرب فى تقديمها لهم مطبوعة بالطابع الوطنى التربوى الموجه فى خطوة منفصلة عن الأدب المترجم ، وسائر نحو إيجاد أدب أصيل .

   أما العامل الثالث فهو عامل الترجمة ، او عامل النقل translation الذى ساهم ويساهم فى نقل ثقافات الأمم بعضها إلى بعض فى إطار التاعون والتكامل الإنسانى المؤثر بالآخرين والمتأثر بهم ، ومنذ القديم وحتى اليوم كانت الترجمة وما زالت " حاجة حضارية ملحة تكتسب أهميتها من قوة تأثيرها فى عملية التقارب والتفاهم بين الناس فى مجتمعاتهم المتباعدة جغرافيا والمختلفة ثقافياً " ، مما يعنى أن أهميتها تنطلق من جانبين أثنين : " جانب إنسانى يتعلق بالتواصل الحاصل من خلال إنتشار الأثر المكتوب وتخطيه حدود البيئة التى أنتج فيها ليصل إلى مجتمعات أخرى حيث يلتقى قراء البلاد المختلفة على كثير من الأفكار والقيم والعلوم الإنسانية التى تقرب فيما بينهم ، وجانب اجتماعى يتعلق بالمجتمع المستقبل لهذا الأثر ، ومدى تفاعله مع مستوى تطوه الثقافى والإجتماعى وحاجته لرفع هذا المستوى وتطويره من خلال استيعاب هذه الثقافة الوافدة وتمثلها فى إطار ثقافته المحلية بما يعزز مكانتها ويحافظ على أصالتها وهويتها " ، وبصورة أكثر دقة فإن أى عمل أدبى يترجم من لغته الأصلية التى يطلق عليها علماء الترجمة تسمية ( لغة المصدر ) إلى لغة جديدة تسمى ( لغة الهدف ) ، فإنه " يغادر أدبه القومى أى أدب لغة المصدر ليستقر فى أدب قومى جديد هو أدب لغة الهدف " ، لذا توصف الترجمة بأنها " هجرة النص " .

   وليست هجرة النص ، كما يقول عبده عبود ، عملية سهلة بل معقدة ومتعددة الأبعاد ، تطرأ خلالها على النص تغيرات أسلوبية جمالية ، ودلالية ، ونصية ، تقل أو تكثر ، وذلك لأن الترجمة الأدبية ليست عملية نقل ميكانيكى لنص من لغة إلى لغة أخرى ، بل هى عملية إبداعية ، يعاد خلالها خلق النص الأدبى فى لغة جديدة وفقاً لمستند مكتوب باللغة الأصلية لذلك النص ، ويرفض عبود القول إن كل ترجمة خيانة ، ويعتبره قائما على سوء فهم لطبيعة العملية الترجمية ، دون أن ينفى أن فكرة الأمانة التامة فى الترجمة الأدبية .

(( الترجمة ... وسيلة التعارف ))
  شكلت الترجمة الخطة الأولى نحو تنبيه أدباء الأطفال العرب إلى هذا الأدب إذ نقلته من لغة المصدر إلى لغة الهدف فى محاولة لتعريف المجتمع المستقبل به ، فقد عرف العرب أدب الأطفال فى القرن التاسع عشر ، أى بعد قرن تقريباً من توجه أوربا نحو الطفل وعلى شكل بدايات بسيطة عن طريق البعثات الدراسية والعلمية التى كانت تتابع تحصيلها العلمى غى عواصم أوربا وع طريق كبار الكتاب الذين كانوا يتقنون لغة أو أكثر إضافة إلى العربية .

   وإذا كانت الترجمة عاملاً من عوامل ظهور أدب الأطفال فى التراث العربى الحديث ، فإن رجلاً مثل رفاعة الطهطاوى ( 1216 - 1290 هـ - 1801 - 1873 م ) ، عجل بظهور أدب الأطفال من خلال عمله فى حقل الترجمة إلى اللغة العربية ، وإشرافه على صحيفة ( روضة المدارس ) ، وترجمته عن الإنجليزية قصصاً بعنوان ( حكاية الأطفال ) ، فكان عمله أو عناية شبه رسمية بأدب الأطفال فى الوطن العربى ، لأنه كان مسئولاً عن التعليم فى مصر ، ولأنه أدخل قراءة القصص فى المنهاج المدرسى .

   عرف العرب ، أوائل القرن شعراً نظم فيه الشعراء خرافات لافونتين وخرافات إيسوب بالعربية ، وكان أقدم هذه الكتب كتاب ( العيون اليواقظ فى الأمثال والمواعظ ) لمحمد عثمان جلال ( 1245 - 1316 هـ = 1829 - 1898 م ) ، وكان الشاعر قد شجع من قبل رفاعة الطهطاوى الذى أعجب به فأرسله إلى مدرسة الألسن ولنبوغه وإتقانه الفرنسية التحق بالديوان الخديوى معلماً ومترجماً للفرنسية ، وظل يتدرج بعد ذلك فى أعمال الترجمة والكتابة فى دوواين الحكومة وآخر ما وليه منصب قاضى بمحكمة الاستئناف بالقاهرة ، وكتابه أول محاولة عربية تبعد الطريق أمام الكتاب لإرساء دعائم أدب الطفولة ، وهى محاولة تسبق محاولة أحمد شوقى بسنوات طويلة ، مما يحقق له الريادة الزمنية ، ووفق الشاعر وهو يترجم ( حكايات لافونتين ) إلى منظوماته الشعرية إلى تحرى دقة النقل إلى الأدب العربى ، وفى التعبير عن البيئة المصرية ، وتمثل الشخصية المصرية تمثلاً صحيحاً فى ميلها إلى البساطة والمرح وخفة الظل ، مما يعنى أن ترجمته أقرب إلى الإقتباس منها إلى الترجمة احرفية loan translation ، ومما يعنى أيضاً حريته فى الحذف والإضافة أى ما يمكن أن يطلق عليه أيضاً الترجمة الحرة Free translation .

   فى العام نفسه صدر كتاب ( آداب العرب ) لإبراهيم بك العرب المتوفى 1927م فى تسعة وتسعين قصة شعرية على غرار خرافات لافونتين أيضاً ، ولكن القصائد الشعريه فيه كانت بعيدة عن روح الفكاهة التى تميز بها جلال وشوقى ، وأقرب إلى الكتابة الوعظية التى تدور فى فلك الإتجاه التعليمى ، أو أنها كانت تنزع إلى النزعة التعليمية Didacticism .

   وبينما التزم الأب أبو هنا المخلصى ، أحد أدباء دير المخلص فى صيدا ، الترجمة الحرفية لخرافات لافونتين ، فى كتابه ( أمثال لافونتين ) ، استقى جبران النحاس فى ( تطريب العندليب ) معظم قصصه الشعرية من لافونتين أيضاً .

(( من الهراوى للكيلانى ))

   وفى الوقت الذى كان الشعراء يترجمون فيه هذه الحكايات ، كتب شعراء آخرون للنشء يعلمونهم قواعد السلوك عبر التوجه المباشر لهم ، أو عبر قص حكاية ، متأثرين بشكل أو بآخر بخطاب الطفل ، فقدم محمد الهراوى ( 1302 - 1358 هـ = 1885 - 1939 م ) عام 1923 ، منظوماته ( سمير الأطفال للبنين ) و ( سمير الأطفال للبنات ) لتتناسب مع مستويات الأطفال اللغوية والإدراكية ، كما صدرت له عام 1924 أربعة أجزاء من ( أغانى الأطفال ) ، ويعد الهراوى من أوائل من انصرفوا بجد نحو كتابة الشعر للأطفال وقد حرص على أن يخاطبهم من خلال شعره ، بلغة سهلة واضحة ومعبرة ، كما حرص على اختيار أخف الأوزان وأيسرها حفظا ، وقد معروف الرصافى ( 1294 - 1264 هـ = 1877 - 1945 م ) مقطوعات شعرية فى كراس بعنوان ( تمائم التعليم والتربية ) ، ولم يكتف الشعراء بالاستقاء من مناهل الأدب الأجنبى ، بل نظموا بعض حكايات ( ألف ليلة وليلة ) و ( كليلة ودمنة ) ، مما يوضح نشأة هذا الأدب معتمداً على الترجمة والاقتباس عن كلا التراثين الأجنبى والعربى شعراً فى البداية ، ثم ما لبث الأدباء أن ترجموا واقتبسوا النثر وقدموه للقارىء العربى ، ويعد على فكرى ( 1296 - 1372 هـ = 1879 - 1953م ) من أوائل من أهتم بأدب الأطفال وهو كثير المصنفات له منها ( السمير المهذب ) فى أربعة أجزاء ، كما اصدر ( مسامرات البنات ) ، وهو عبارة عن أشتات مجتمعات فى أدب التسلية ، وعظات دينية وأخلاقية ، وذكر خصال النساء ن ولا يعد الكتاب من كتب أدب الأطفال ، لكن كتابه ( النصح المبين فى محفوظات البنين ) ، ووصيفه ( فى تربية البنين ) ، ونظيره ( فى تربية البنات ) ، والتى أصدرها عام 1916 ، من الكتب الأولى التى ساهمت فى ميدان أدب الطفل الحديث ، وقد عرف كتاب ( تربية البنين ) بأنه كتاب صغير يهدى النشء إلى واجباتهم المدرسية والمنزلية والإجتماعية فيشبون من صغرهم على مكارم الأخلاق ومحاسن الخصال وجليل الأعمال التى يكونون بها رجالاً فى المستقبل ، نافعين لأنفسهم ووطنهم وأسرهم ، أما ( تربية البنات ) ، فكتاب لتربية البنات تربية إسلامية حقة فى أدوار حياتهن المنزلية والمدرسية والإجتماعية ، ويشمل الأناشيد الأدبية ، والحكم والأمثال الوعظية ، لتكون بها سيدة مهذبة ومديرة عاقلة وإمرأة صالحة نافعة لأمتها وأسرتها كما جاء فى نهاية ( السمير المهذب ) الجزء الرابع .

   ويعد كامل الكيلانى ( 1315 - 1379 هـ = 1897 - 1959م ) أول من كتب قصص الأطفال فى الأدب العربى الحديث ، وقد ساعده فى هذا إتقانه اللغتين الإنجليزية والفرنسية كتب للأطفال ( مجموعة قصص فكاهية ) و ( مجموعة قصص من ألف ليلة وليلة ) و ( مجموعى قصص هندية ) و ( مجموعة من أساطير العالم ) و ( مجموعة قصص علمية ) ، وكان أول ما نشر من هذه القصص ( السندباد البحرى ) سنة 1922 ، وآ خر قصة له ( نعجة الجبل ) ، وتعادل مكتبة الكيلانى فى قيمتها الفنية ودرجة الإقبال عليها من جمهور الأطفال والأدباء والآباء والأمهات ما حققته كتابات اندرسن Christian Andersen Hans فى عام ( 1805 - 1875 ) فلا الأدب الغربى ، ويؤكد خليل مطران ريادة الكيلانى فى إنشاء مكتبة الأطفال القصصية ، فيذكر : لو لم يكن للأستاذ الكيلانى إلا إنه المبتكر فى وضع ( مكتبة الأطفال ) بلسان الناطقين بالضاد فكفاه فخرا بها ، ويتميز الكيلانى بعرازة الإنتاج التى زودته بخيرة فى الكتابة وكانت سبيله إلى حقل التأليف والاستفادة من التراث العربى القديم ، كما هى حال مجموعته ( قصص عربية ) التى تضم قصصاً عن حى بن يقظان وابن جبير وعنترة ، مما يعنى أن الكيلانى استفاد من الترجمة والاقتباس للانتقال إلى حقل التأليف فى مرحلة تالية .

الاثنين، 10 يناير 2011

طب : الإنسان الآلى .... جراح قلب

يبدو تطور جراحة القلب المفتوح وبالأخص زرع الشرايين واضحاً وجلياً ، ولاسيما فى السنوات الأخيرة عندما تم استخدام الإنسان الآلى للقيام بهذه الجراحة .


   تجرى العمليات الجراحية على القلب الصناعى واوعيته الدموية الرئيسية بطريقتين : الأولى توقف القلب تماماً وعزله عن الدورة الدموية واستعمال القلب والرئة الصناعية لتعويض عمل القلب والرئة للمريض ، وهذه الطريقة تسمى جراحة القلب المفتوح .
   أما الطريقة الثانية وهى إجراء العمليات الجراحية على القلب واوعيته الدموية الرئيسية من دون توقف القلب ، وهى ما تسمى جراحة القلب المغلق ( القلب النابض ) .

   فالمراحل التاريخية التى مرت بها جراحة الشرايين التاجية بدأت منذ عام 1706 عندما كتب عالم التشريح الفرنسى فيوسن ، ولأول مرة عن الشرايين التى تغذى عضلة القلب فأسماها الشرايين التاجية نظراً لتوضعها على سطح القلب كتوضع التاج على رأس الملك وأسماها آخرون بالشرايين الإكليلية نظراً لأنها تشبه إكليل العروس .



   وفى عام 1946 قام الجراح أرثور فينبرج بأول محاولة جراحية فى إعادة التروية للعضلة القلبية عن طريق تحويل مسار شريان الثدى الباطن الأيسر وغرسه مباشرة فى عضلة القلب عن طريق إحداث نفق عشوائى فيها .
   ففى عام 1953 بدأت جراحة القلب المفتوح عندما قام جراح القلب جيبون فى أمريكا ولأول مرة فى العالم بإغلاق الفتحة بين الأذنيتين باستخدام القلب والرئة الصناعية ، وفى عام 1959 أجرى سونز ، ولأول مرة وبنجاح تصوير الشرايين التاجية ( القسطرة ) .
   فى عام 1967 أجرى جراح القلب فافالورو فى مستشفى كليفلاند فى أمريكا أول عملية تجسير بين أبهر القلب الصاعد والشريان التاجى المتضيق فكانت تلك الطريقة انطلاقة العلاج الجراحى لنقص التروية للعضلة القلبية ، فانتشرت هذه الطريقة فى جميع المراكز الجراحية فى العالم .

   وفى عام 1977 قام جرونزج لأول مرة بعملية توسيع الشرايين التاجية المتضيقة بواسطة النفخ بالبالون .

 
(( زراعة الشرايين ))

   إن الجراحة التقليدية لزرع الشرايين تتم بمراحل مهمة وتتجلى بفتح الصدر عمودياً وفى المنتصف وذلك بنشر عظم القص طولياً ، والمرحلة الثانية وهى تركيب أنابيب القلب الصناعى فى قلب المريض والمرحلة الثالثة توقف القلب وزرع الشرايين عليه .

ونظراً لظهور مضاعفات لهذه الطريقة بدأت بعض المراكز الجراحية بإجراء عملية الزرع من دون توقف القلب ، ومن دون إستعمال القلب الصناعى ، وهذا ما يسمى زرع الشرايين بالقلب النابض ، وأيضاً بدا البعض يتحاشى فتح الصدر بالطريقة التقليدية وبدأ فنح الصدر والوصول إلى القلب عن طريق الفراغ بين الأضلاع ، وذلك لتخفيف الشعور بالألم بعد العملية .
   بدا استعمال الإنسان الآلى فى جراحة القلب - وخاصة فى جراحة الشرايين التاجية - فى أوربا عام 1998 بعد أن أستعمل فى جراحة البطن عام 1997 .

   إن عمل الإنسان الآلى بطريقة مبسطة ومبرمجة ومحددة ويعمل كما يلى :
   يكون المريض تحت تأثير التخدير العام ، وبعد وضع الأغطية المعقمة عليه ، يقوم مساعد الإنسان الآلى بإحداث ثلاث فتحات صغيرة فى الصدر لا تتجاوز ( 105 - 2 سم ) بين الأضلاع وفى الفراغ ( 2 ، 4 ، 7 ) وإدخال كاميرا التصوير ثلاثية الأبعاد وأطراف الإنسان الآلى داخل الصدر ، يبدأ الجراح وهو فى مركز القيادة ( التحكم ) بتحريك يديه وبذلك تتحرك أطراف الإنسان الآلى تجانسياً مع حركة يدى الجراح ، يبدأ أولاُ بتسليخ شريان الثدى الباطن الأيسر عن حائط الصدر الداخلى ، وبعد أن تتم عملية التسليخ لشريان الثدى الباطن الأيسر يقوم المساعد بعمل فتحة صغيرة رابعة فى الصدر لإدخال المثبت حول المنطقة المجاورة للشريان الأمامى النازل المراد الزرع عليها ، تتم عملية زرع شريان الثدى الباطن على الشريان الأمامى النازل والقلب يعمل ( القلب النابض 9 .

   إن استعمال الإنسان الآلى فى جراحة القلب لها محاسنها مقارنة بالجراحة التقليدية ، فالألم بعد العملية يكون أخف مما لو كانت العملية التقليدية ويتسعيد المريض نشاطه بزمن قليل ( عدة ايام ) ، وندرة تعرض المريض للالتهابات الجرثومية فى الجرح ، إضافة إلى أن فتحات الصدر تكون تجميلية ( فتحات صغيرة فى الصدر ) وفقدان كمية قليلة فى الدم مقارنة بالجراحة التقليلدية ، وإن الكلفة المادية لتلك العملية أقل بكثير من الجراحة التقليلدية ذلك فى تقليل عدد أفراد الطاقم الطبى والجراحى ، أيضاً فإن إجراء عملية الزرع بواسطة الإنسان الآلى يقى من أى اهتزاز فى يدى الجراح أو أى تعب فيما لو قام الجراح مباشرة بهذا العمل .

   من خلال هذه النظرة السريعة والمراحل التى مرت بها عملية زرع الشرايين على القلب نلاحظ التطور السريع على هذا النوع من الجراحة ، وما يخبئه المستقبل لطرق أفضل فى علاج نقص الترويه للعضلة القلبية ، ففى الأفق وفى زمن قريب جداً سوف يصل العلم إلى حل جذرى لهذا النوع من العلاج وبأسلوب أقل عدوانية .